Dr.dabbagh

الاثنين، مايو 27، 2013

مقال اخر مهم حول النسبية في الحياة


نسبية ..!؟ ( [1] )  
لم يخطر ببال الطبيب، وهو الذي كرس حياته لمحاربة المرض والجرثوم، لم يخطر له أن يسأل نفسه هل أن هذا الجرثوم مجرم بالحقيقة يستحق الاعدام؟ .. قد يكون هذا سؤالاً غريباً لأن من البديهي أن الجرثوم يستحق الهلاك لأنه يسبب المرض للإنسان .. ولكن الحقيقة أن الجرثوم بريء مسكين .. ولكن كيف؟ .. لقد وجد الجرثوم وكان من طبيعة تركيبه أن يسبب المرض فميكروب السل مثلاً له تركيب معين وطبيعة ثابتة وقد صادف أن لا يعيش هذا التركيب وأن لا تنتعش هذه الطبيعة إلا في جسم الانسان. وليس للميكروب إرادة واعية تبعده عن هذه البيئة وعن هذا الطعام الإنساني. إن تركيبه يحتاج الى هذا الطعام وهو مضطر أن يلتهمه.
وكما أن من طبيعة الملح أن يذوب في الماء وليس في استطاعة الملح ألا يذوب ان وجد في الماء، فمن طبيعة الجرثوم كذلك أن يسبب المرض إن شاء أو أتى. وهكذا نرى انه بريء مسكين.. مكره على أمره.. وليس مسؤولاً عن المرض الذي يسببه، ولكن هل أن هذا يمنعنا عن محاربة الميكروب والقضاء عليه؟ ... كلا .. فإننا وإن اعترفنا أنه غير مسؤول من الناحية المجردة ولكنه مسؤول بالنسبة الينا لأنه يسبب لنا ضرراً. ومن هذا المثال البسيط نتبين كيف أن المسؤولية قد تكون معدومة من الناحية المجردة ولكنها فعالة قوية من الناحية النسبية. وفي المجتمع الإنساني صور عديدة لهذا الاختلاف الظاهري بين التجريد والنسبية وان مسؤولية الفرد امام مجتمعه هي من أبرز هذه الصور. فقد يصدر القانون حكماً بإدانة شخص لا لأنه مجرم فعلاً بل لأن عمله يهدد سلامة الجميع. ولنأخذ أقرب مثال على ذلك وهو المجرم الجنسي. فإن المجرم الجنسي يرتكب جريمته لأنه منحرف الميول الجنسية، وقد تغلغل هذا الإنحراف في وعيه وكيانه بحيث لا يمكنه أن يتصرف إلا في حدود هذا الإنحراف.. أي أن سلوكه أصبح آلياً خالياً من الشعور الإجتماعي. ولا يمكننا في هذه الحالة أن ندين آلة خطرة لا يمكن أن تعمل إلا في حدود تركيبها ولكن يمكننا أن نوقف هذه الآلة عن عملها ثم نحاول أن نغير من تركيبها أو نغير من الظروف التي خلقت هذا التركيب لتعود بعدئذ الى عملها المفيد الطبيعي. وكذلك القانون فإنه يحجر المجرم الجنسي ويحاول اصلاحه لا لأنه مجرم بل لأنه مريض يهدد صحة المجتمع الإنساني.
وقد فتح علم النفس أفقاً جديداً فيما يخص دقائق السلوك الانساني ومسؤولية الفرد امام القانون، وبينما كان القانون قديماً يدين الفرد على أساس فعله فقط دون النظر في ظروف ذلك العمل وفي تركيب ذلك الفرد أصبح القانون الآن يستهدي بما يكشفه له علم النفس من حقائق عن النفس البشرية وسلوكها في المجتمع وصلابته التقليدية اللفظية وأصبح القتل لا يعني مجرد القتل بل يعني أشياء كثيرة قد تخفف من مسؤولية القاتل. وأصبح القانون اداة اصلاحية لا عقابية. وعلم النفس بتطوره السريع لا ينفك يكشف عن حقائق كثيراً ما تخفف من مسؤولية الفرد أمام القانون، ولا ينفك القانون يتطور مع علم النفس كلما آمن بحقيقة تلك الكشوفات .. ولكن القانون لا يمكنه أن يستمر في هذا التساهل لا لأنه لا يؤمن بما يكشفه علم النفس بل لأن القانون هو من وحي المجتمع وعليه أن يسير دائماً بالنسبة الى ذلك المجتمع .. أما علم النفس فإنه يقرر حقائق علمية مجردة، ومن هنا يفترق القانون عن علم النفس ولكنه افتراق ظاهري بالحقيقة. ان القانون وسيلة او نظام أوجده المجتمع لحفظ سلامته ومهما يحاول العلم أن ينفي المسؤولية عن الفرد فإن المجتمع مضطر ان يحمله مسؤوليات تحفظ له كيانه ولكنه في الوقت نفسه يحترم ما يكشفه له العلم ويستخدم هذه الكشوفات لإصلاح مثل هؤلاء الأفراد.
فالتجريد إذاً ذو قيمة علمية فلسفية تهدي المجتمع الى اصلاح كل عضو مريض فيه ... والنسبية إذاً ذات قيمة إجتماعية فعالة لأنها وسيلة للمحافظة عليه.



( [1] ) نشرت في مجلة أخبار الكلية الطبية، العدد 1، 1950.

مقال مهم حول اهمية دراسة التراث


التراث ..... دراسة لا تمجيد ([1])
فاجأني وادهشني شخص كبير العمر بسؤاله: ما جدوى البحث والتنقيب وبذل الاموال الطائلة من أجل اعادة بناء قلعة قديمة أو تمثال محطم او مدينة مندثرة؟ وما هذا الحرص والإهتمام المتزايد بالحديث عن التراث وتشجيع الكتاب والباحثين والمحققين فيه؟. واحتراماً للتراث والتاريخ –وفرق السن- لم اشأ أن اجيبه هكذا: أو تريد ان يتنكر لك ابنك، أو يهينك حفيدك؟ ، لاعتقادي بان الانسان لا يحترم نفسه وحاضره مالم يعرف ماضيه ويؤسس له ذكرى في مستقبله والاهتمام بالتراث هو أول مظاهر الاحترام للآباء والاجداد. ومن الاهتمام بالماضي ينفتح اول باب أمام الحاضر والمستقبل والزمن واحد لايتجزأ، لابداية ولانهاية، الماضي يعيش فينا ونحن نعيش منه والمستقبل يعيش علينا.
ولكن هل أن اهتمامنا بالتراث هو لمجرد الاحترام؟. كان جوابي أنه اول مظاهر الاحترام، والاحترام أبسط فوائده، ولنتبع الاحترام فوائد أكبر وأخطر وعندئذ نتعدى سلوك الاحترام الى سلوك المعرفة والتعمق، إلى العلم والتقدم. ودراسة التراث هي التعمق في أصول وتتبع جذور حضارتنا وهي الاطلاع على قاعدة الارتكاز ونقطة الانطلاق لحاضرنا، وتتبع لسير حضارتنا وتاريخنا. وقد لا يكترث البعض بهذه القاعدة ويقنع بما هو عليه –كما فعل صاحبي- ظناً منهم أن الحاضر بحد ذاته فوق ما يطيقون استيعابه، إلا أن مغبة عن ذلك هو الانفصام والمتاهة والتفاهة أو الغرور، متاهة السائر في قلب صحراء بلا حدود أو العائض في بحر بلا قاع، وتفاهة الوليد المتنكر لاصله ووالديه أو الغبي وارث الملايين وغرور الاحمق الذي يشعر بالعبقرية والجاهل المدعي الحكمة، وانفصام نركيس الذي يعشق نفسه فقط. ودراسة التراث هي الولوج الى عالم المعرفة الواسعة المتكاملة، إذ لا يوجد فرع ولا جزئية من معرفة حالية لا ترتبط بسابقة أدت اليها، والسابقة تمتد إلى سابقاتها، أي الى ميدان التراث الذي نحن بصدده وهو المنبع الأم. والدارس للتراث في موضوع عمله أو هوايته هو الوحيد الذي يستطيع أن ينقل المعرفة ويكتبها ويعلمها لجيله واساتذة التاريخ والأدب والفن والشعر الجهابذة المتمرسون هم الذين درسوا التراث وعشقوه وهؤلاء الاساتذة والمربون هم الذين خلدهم انتاجهم وتلامذتهم وشعبهم فمدرس الادب الحديث القدير هو من عرف مسبقاً الادب القديم أيضاً (التراث الادبي) واستاذ الفن المعاصر الماهر هو من هضم مسبقاً ايضاً الفن الغابر (التراث الفني).
والشاعر المجرد الشهير هو المتمرس الذي سبق ان امتص واستفاد ووعى الشعر القديم فتمكن بعدئذ من تجريده والانطلاق به الى ماوصل اليه. وهكذا نرى كيف أن التراث ظهير ونصير لعشاق المعرفة وللمبتكرين والمردين والمعلمين الخالدين، ولم يتمكن (طه حسين) مثلاً أن يحتل مكانه المرموق في النقد والادب والتاريخ إلا بعد أن نقب بعقله الثاقب طوايا وخفايا التراث العربي وزاذ على ذلك بدراسة تراث غربي آخر هو التراث الاغريقي والفرنسي. ولا يعني ذلك أن كل من درس التراث أصبح من مشاهير الكتاب أو الفنانين او المربين الا ان التراث اصبح عنصراً مكملاً ومغذياً لمن تتواجد فيه القابليات المطلوبة ليكون ذلك الاستاذ المجيد والاديب الفذ والشاعر القدير والناقد الواسع الأفق. ودراسة التراث تعزيز للعلوم المتعددة وإعلاء لشأن الانسان بحد ذاته. وليس الصعود الى العقر بأروع من اكتاف (أرخميدس) أو من نظرية (فيثاغورس) أو من قاعدة (باسكال).
إن التراث العلمي القديم هو الذي أدى بالانسان المعاصر الى ان يعبر الاجواء ويسبح في الفضاء ويسير على كوكب سماوي آخر، والمأساة التي يتحدث عنها شباب الادب والشعر ومن يتعلق بأذيال (كافكا) و (بروست) ليست بأروع وأعمق من المأساة التي تطرق اليها شعراء العرب أو كتاب التمثيليات الاغريقية أو شكسبير. وعبيد الرومان المساكين هم الآن زنوج جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، وأفكار وتطلعات (سبارتاكوس) هي الآن افكار (انجيلا دنفر) و (مارتن لوثر كنج) وغيرهم. التراث إذن ليس دراسة لشيء مات وأندثر أنه دراسة لأفكارنا البشرية التي تحيا فينا دون أن تدري، فهي أشبه بدراسة اللاشعور أو استكشاف قيعان المحيطات أو الحفر في بطون الأرض. ولن تعترينا الدهشة بعدئذ إذا وجدنا بعض النظريات النفسية الحديثة ترجع باللاشعور والسلوك الى اصول سلالية موغلة في القدم. وقد تطرق (مزويد) الى ذلك تطرقاً عابراً عندما وجد بعض محتويات اللاشعور وهي أقدم بكثير من عمر الإنسان القصير، أما نظرية (يونج) فتقول بمنتهى الجرأة أن هنالك لا شعوراً آخر هو أضخم وأوسع وأعمق من اللاشعور الفردي الذي ذكره فرويد وهو –اللاشعور السلالي- مالذي نصب فيه أو تتشعب منه روافد اللاشعور الفردي أي أن اللاشعور الذي يؤثر في الفرد العربي الواحد مثلاً يحتوي على طاقات وميول وغرائز يشترك فيها إخوانه العرب الآخرون الآن ومنذ أقدم العصور وهذا اللاشعور الجماعي يتألف من تراث الافكار والعادات والاتجاهات المندثرة فينا ظاهرياً. ولعله عند هذا المستوى من اللاشعور السلالي التراثي نجد تفاسير لأغرب سلوك بشري يحدد في السبعينات من قرننا العشرين.
بل لعله عند هذا المستوى من اللاشعور أيضاً نلتقي اعرق التراثات وتمتزج في تراث بشري واحد. ولكي لا نستغرق في حديث عن علم نفس صرف نرجع الى التراث لنتقول أن دراسة التراث هي دراسة لأنفسنا أيضاً وليست لأشياء ماتت فليس ثم موت الا للأجساد، أما الفكر والفن والعلم والأدب فقائم وأزلي في الوجود بالمفهوم الفلسفين وهو قائم وأزلي بالمفهوم البيولوجي أيضاً لأنه ثبت لنا أن الجينات والكروموسومات هي نابعة من أصل كروموسومات وجينات أجدادنا وسلالاتنا لكنها تتجمع وتتجدد بوسائل وعلاقات متعددة أبد الدهر وبتلك تختلف إمكاناتها وعطائاتها وكذا طفراتها. ودراسة التراث لا تستوجب أو تحتم تمجيد التراث وشتان بين الدراسة والتمجيد ولعل مكابرة البعض وإهمال الآخرين وبرود البقية من المتنكرين للتراث خلط بين الدراسة والتجميد. والحقيقة التي غابت عن هؤلاء أن الدعوة إلى إحياء ودراسة وتحقيق التراث لا تعني الدعوة الى تمجيده بالضرورة، لا التمجيد أو النقد أو الذم  يتوقف على نتيجة دراستنا له وقد نقع من تراثنا على الغث والسمين، الجيد والردئ، الصحيح والخاطئ، وعندئذ فقط يحق لنا أن نمجد أو ننتقد. إن التمجيد لذاته –وجزافاً- سلوك مريض يرفضه المصلحون والسياسيون والمفكرون أما الدراسة فهي تعليم ومعرفة واكتشاف: تعليم للنواحي الجيدة ومعرفة بأخطاء الاقدمين واكتشاف فواصل لزوايا منسية وحقائق ضائعة وجوانب مخفية ومن مجموع هذه المزايا يتم البناء الحاضر ليكون متكاملاً وواعياً وحذراً من المزالق والثغرات.
واهتمامنا بالتزامن هو واجبنا نحو ماضينا تجاه حاضرنا من أجل مستقبلنا، والاهتمام غير التمجيد او الذم فلكل مقامه ومقاله، والواجب والانصاف يدعونا أن نمجد ونستفيد
متى اقتضى الامر ذلك وأن ننتقد ونستفيد متى اقتضى الامر ذلك ايضاً وهذه هي الخلفية
Back ground  التي يستند اليها ويحتمي بها كل انتاج فذ معاصر. وليس من الضروري ان الخلفية بارزة للعيان طالما كانت ثمة صلة روحية كامنة بين الاثنين ولذلك قلنا أن التراث ظهير لمن يريد والظهير هو الذي يمثل الخلفية التي يتحدث عنها الكثيرون. ودراسة التراث لا تعني أيضاً التعصب والضيق الفكري لأن تراث ثقافة ما اعلاء وتعزيز لتراث ثقافة اخرى او قومية أخرى، وما أجمل وألذ أن يلتحم التراثان والثلاثة والأربعة في مساجلات ومطارحات ومناقشات وحفلات ومآدب عقلية تمهد لمزيد من التعاون والأخوة البشرية والعدالة الاجتماعية. وهكذا يكون التاريخ والتراث علم الحركة وعلم الحياة وليس علم الاموات والحوادث المتفرقة، لذلك أصبح احياء التراث من الواجبات والمهمات الاساسية للجامعات ووزارة الثقافة والاعلام، وهو مايجري تنفيذه بإصرار في بلدنا.
بقي أن اعترف وأشارك بعض المفكرين الآخرين في التعبير عن مللهم وتذمرهم من بعض الكتابات التراثية. والحقيقة ان القارئ المعجب بالتراث لا يستسيغ تلك المقالات الانشائية التي تقول: "ولد فلان بن فلان ... ومات ... وعمل كذا وكذا ... وأفعاله كذا وكذا ..."
فالكتابة من التراث تتطلب التجديد والإضافة على ما سبق نشره وتتطلب الكشف عن طرائق وحقائق، أو اثارة نقاش وجدال قمر. ولعل النفور الظاهري للبعض من التراث يرجع الى جمود وتكرار بعض الكتاب والخطأ ليس في التراث بل في بعض كتابه التراث يعلمنا الكثير وأول ما يعلمنا التواضع وتجنب غرور القرن العشرين وهذه همسة متواضعة في آذان الذين يكابرون ويتجاهلون وينفخون في حفنة رماد ظانين أنهم سيضرمون ناراً عظيمة من شعر وأدب وفن دون حاجة الى ووقود ومؤونة من تراثهم العريق .....


([1] ) نشرت في مجلة جامعة الموصل (جامعة الموصل)، العدد 1، 1971.

مانشر عن شهادة الدكتور الدباغ في مجلة الف باء العراقية


اغلفة كتب الدكتور فخري الدباغ وبدون تسلسل زمني
















الثلاثاء، مايو 21، 2013

اخر مقال نشر في جريدة الجمهورية عام 1983 :


علة الكمال 
أليس من الغريب ان نتكلم عن علة في الكمال ..؟ فالكمال قمة الآمال والاحلام والطموحات، والكمال زينة الفضيلة والاخلاق والجمال، والكمال دليل الدقة والحكمة والمهارة، والكمال مسألة حيوية في الفكر والفن والعمل، فهل يحق لنا بعد كل هذه المزايا أن ننعته بالعلة أو النقص أو الخلل..؟ وهل تريد أن ندخل في رياضة سوفسطائية لنجمع بين نقيضين ونبرهن أن الواحد يساوي أثنين؟ الحق ان الزاوية التي نريد أن ننظر منها إلى مسألة الكمال هي الزاوية العملية التطبيقية في الحياة فالدوران في حلفة المثاليات والنظريات لا جدوى منه إلا اذا عاد بالفائدة إلى دعم تقدمنا وانتعاش امورنا. فلندخل إذن حلبة التحليل والنقاش المنطقي ولنأخذ بجزيئات المسألة لنجمعها بعدئذ هنالك الكماليون ذوو المزاج والطبع الكمالي الذي لا يمكن أن ينتج شيئاً إلا اذا اعتبره كاملاً. وهذه الخصلة فضيلة على علاتها وواجهتها دون ريب. لكن بعضهم –وهم ليسوا بأقلية بين الناس- تطغى عليهم هذه النزعة فاذا به لا ينتج شيئاً قط، وتراه غارقاً في خضم التفصيلات والجزيئات، وغارقاً أيضاً في خضم من الاحباطات ومحاطاً بأسوار من الخيبة والعجز الذاتي لأنه يعتبر أي شيء ينجزه ناقصاً أو معيباً أو تافهاً والنتيجة هي أن من يبغي الكمال. أو عاشق الكمال من هذا الصنف، يصبح عقيماً منجمداً خائفاً من نفسه أو خائفاً من الآخرين واحتمال نقدهم لاعماله، وهذه إحدى علل الكمال، تقديس ووله يؤدي إلى عقم في الفن أو الفكر او النقد أو العمل أو الكتابة، والكمال صعب المنال كما نعرف، ولن نجد نتاجاً بشرياً يمكن أن نعده كاملاً بدرجة الاطلاق او كمالاً حقيقياً، لكن بعض الناس تتجاهل ذلك كما رأينا في المجموعة السابقة، إلا أن مجموعة أخرى من الناس تعرف ذلك جيداً ولكنها تستخدم نفس الوسيلة وتعزف على ذات النغمة لغرض وضع العراقيل أمام أي مشروع أو تحرك أو إنتاج برفع رأسه ويريد أن يبدأه الآخرون. فإذا استبشروا –أو سمعوا- بفتح كلية أو معهد أطلقوا السنتهم في بيان وتعداد نواقصها ومعايبها موقعاً أو ادارة او بناء أو تجهيزاً وإذا سمعوا بوجود مدرستين صباحية ومسائية في بناية واحدة قالوا أن ذلك يؤثر في كذا وكذا من خفض المستوى العلمي، وارتباك اداري، و ... و . أما لو عرفوا بأن ظروفاً قاهرة توجب وجود ثلاث مدارس في بناية واحدة لاغمي عليهم من الجزع أو الدهشة لتصورهم عدم إمكانية ذلك. وهم أنفسهم من الجماعة الذين يختلقون العراقيل المفتعلة امام  التعريب لأنهم يتقدمون بعشرات الذرائع والمعاذير والمشاكل التي تقف أمام المشروع في عملية التعريب –وخاصة في الحقل الطبي- وهم يتناسون كيف جرت عملية الترجمة ونقل المعرفة من الحضارات الأخرى إلى العربية في بواكير عصر النهضة الإسلامية العربية، بل أنهم يتجاهلون كيف تمت ثورة علمية بهذا التعريب الذي قام به عدد نزر يسير من المعربين وفي ظروف صعبة لا تقارن برفاهية وتقنية العصر الحديث وكيف كانت أعمالهم لا تخلو من الاغلاط أو الغموض أو الهفوات، لكنها أدت رسالتها وسجلت ثورة في تاريخ العلوم عند العرب، وهؤلاء هم أنفسهم الذين لا يسعهم تصور امكانية نجاح حملة محو الامية لان وسوستهم أو ترددهم أو تشكيكهم وانعدام روح الاقدام والمبادرة تحجب عن افكارهم امكانية جمع الامبين في مدرسة مبنية من الاجر الطين أو حتى في العراء أو تحت ظلال الاشجار ولو التفتوا قليلاً إلى تاريخ قريب جداً، ولو نظروا إلى الوراء عقداً او عقدين من الزمن لأدركوا أن المشروع يمكن أن يبدأ بالاوليات والاساسيات الضروريات ثم يتكامل تدريجياً. ولقد عايشنا كليات في جامعات القطر منذ أن كانت تحبو في بنايات صغيرة وقاعات تدريس محدودة ومختبرات ضيقة وبصفة اساتذة عراقيين وأغلبية من العرب والاجانب المعارين والمتعاقدين، فإذا بها الآن تتسع لأعداد غفيرة من الطلبة وتضم كادراً تدريسياً فنياً وبنايات حديثة ومجهزة بأحدث التقنيات وهكذا كانت كلية الطب البيطري في الموصل مكونة من دار أهلية صغيرة مستأجرة للعمادة، أما طلبتها فكانوا يدرسون في قاعات ومختبرات كلية الطب، فإذا بها الآن وقد إحتلت بناية حديثة شامخة ذات اقسام وقاعات ومرافق فسيحة، وكذا بدأت كلية طب المستنصرية والكوفة، وكذا بدأت كلية التربية الرياضية ثم كلية طب الاسنان في الموصل، وهكذا ستبدأ كلية القانون في هذا العام الدراسي، وفي هذا العام ستحتفل كلية طب الموصل بعيد يوبيلها الفضي وأصبح بعض خريجيها أساتذة فيها. والامثلة كثيرة لا تحصى في مجالات اخرى في سلسلة التطور الحضاري.ولو كان المخططون والمسؤولون والمنفذون مترددون لما أقدموا على البناء والتطوير والمثابرة في البدء ثم في اكمال النواقص وسد الثغرات واستبدال المستهلك وانشاء الحديث. إن البداية الصحيحة في كل عمل ومشروع هو التخطيط واعداد الاوليات والاساسيات، ثم التنفيذ بحدود الامكان. أما البداية العليلة والخطأ الكبير فيقع عندما تؤجل كل الاوليات والاساسيات المتوفرة والجاهزة انتظاراً لما هو اكمل واحسن، وهو بالأحرى تعويق وليس ببداية لأنها لن تبدأ قط. ترى ماذا سيحدث لو كان هذا المبدأ هو السائد؟ وماذا سيفعل الفرد ذو الدخل المحدود، وماذا ستفعل الدول المتخلفة الفقيرة والنامية؟ هل ستتخلى عن كل مشاريع التنمية لأنها بدائية وكيف ستكون عسيرة البناء والانتعاش، هل ستبقى ذليلة عاجزة ومنكمشة؟ وأقول من يستطيع أن يأتيني بقصة أو قصيدة او تمثيلية او كتاب أو بناء أو مشروع أو قانون "كامل متكامل" لا عوج فيه ولا أمتاً؟ إن ذلك من المحال، فالكمال نهاية مطلقة، وعندما نصل الكمال في شيء نكتشف اننا لن نصله بعد وعندما نتصور أن الجهاز أو العمل الفلاني وصل حد الكمال لا تلبث أن تبرز هفوات وسلبيات لم تكن في الحسبان، وعندئذ نبدأ من ذلك الطور الكامل لنسير في مرحلة تكامل جديدة وهذا هو جوهر التطور، ولكنه تطور في خطوات لأننا لو بدأنا بمقالة أو لوحة وانتهينا منها ثم عدنا من جديد لنكمل نواقصها، ثم عدنا مرة ثانية وثالثة ورابعة لنكمل نواقص الاخرى لما ظهرت إلى الوجود قطعاً ولدخلنا في دوامة أبدية وانتابنا الوهن والعجز كأولئك العاجزين من –عشاق الكمال- ولو كان مشروع اليوم أو بحث هذا الشهر ناقصاً ثم نشر وظهر للوجود وجاء باحث آخر –أو الباحث نفسه- ليعيد القراءة ويضيف إليها، اذن لسرنا في عملية تجديد دائبة وهكذا يمكن أن تكون القراءة الجديدة للتاريخ أو الشعر أو القصة أو الملحمة مكملة –وربما أفضل- من دراسة جرت قبل قرون.
وقد يتصور القارئ الكريم انني ضد الكمال، وقد يتهمني بأنني أحبذ وأميل إلى البدائية أو التسرع وربما التهور، وحاشا الله، بل أعوذ بالله أن يكون ذلك قصدي لأنني مجدت الكمال واشدت به في إفتتاحية المقال، لكنني أقول ((.. أنه عندما لا يتوفر الاحسن فلنبدأ وننفذ الحسن ... وإذا لم يتوفر الحسن فلنبدأ وننفذ المناسب والممكن ... والممكن في نظري هو توفر الاوليات والاساسيات والاركان وإلا كانت البداية عرجاء والعملية مريضة مهما كانت نوعية وماهية تلك العملية ...)) كما أنني أرجو أن لا نخلط بين الكمالية والمثالية.. فليس كل مثالي كامل .. وليس كل كامل مثالي .. فالكمال يشمل كل شيء ويمتد إلى أي شيء والمثالية ذات مضمون ومفهوم اخلاقي ... ومن يمتلك بعض الخصال المثالية فهو اخلاقي وخير ... وطيب ... وحسن ... حتى وإن لم يبلغ حد الكمال فيهم. الكمال طموح وتصور يخلق العزيمة ويشد الإرادة، ولكنه مثل قوس قزح وهم جذاب وهدف سامي إذا وصلناه حيث نتصوره لم نجسده أو نعثر عليه .. ولذلك يقال بصدق –ان الكمال لله وحده- ومن يطمح أن يبدأ بالكمال أو يصل إلى الكمال فهو حالم. واعود فأقول –خلاف عنوان المقال- أن الكمال ليس بعليل في الحقيقة لكن العلة في الانسان المتردد والحالم، والعلة في تصور الكمال على غير حقيقته والعلة فيمن يجزع ولا يعمل ولاينتج .......