Dr.dabbagh

الاثنين، يوليو 22، 2013

الاقناع التجاري -الجزء الثاني

الحيل النفعية في الدعاية التجارية:- لما يستلم التجار والمنتجون مفاتيح النفس البشرية وطباعها عن طريق الخبراء تنفتح امامهم جيوب المستهلكين. والمفاتيح النفسية التي تضعها أجهزة الوكالات الدعائية تفرغ جيوب المستهلكين مع الحفاظ على سعادتهم واستبشارهم واطمئنانهم، وهي بالحقيقة نفس الوسائل التي تطرقنا اليها في مواضيع سابقة الا انه من الممتع والمفيد أن نتناولها الآن من الزاوية التجارية وبلغة السوق ونعددها بما يلي:-
1- الدعاية التجارية تخلق مثالاً للفرد في البضاعة، أي انها توجه الانا الاعلى والانا الى عشق صورة او رمز محبب اليه ويتطلع اليه وكثير من الناس بيدون اخلاصاً عجيباً لنوع من السكاير لكنهم لا يستطيعون تمييزها عن غيرها اذا تعرضوا لفحص سري مما يدل على ان الناس لا يعشقون دخاناً معيناً بل صورة واسماً ومثالاً خاصاً في اذهانهم. فقطعة المارجرين المرسوم عليها ثبات البرسيم (النقل) ذو الأربع اوراق او القميص الرجالي المصحوب بصورة رجل وسيم ذي شوارب انيقة او السكاير التي يدخنها العمال الممتازون هي ليست بضائع صرفة تهم المستهلك بقدر ما تهمه الصورة أو المثال التي يصاحبها في عقله أو اعتقاده. فسكاير الكامل (الجمل) المعروفة تعني لدى الناس الرجولة أو الدخان الحار، وسكاير (لكي سترايك) تعني نفس الشيء مع تخصصها للناس الاعتياديين. اما سكاير (شيسترفيلد) فهي للنساء والرجال ودخانها متوسط الحرارة ... الخ. وسيارة (الكاديلاك) تدل على الانفة والحراك الاجتماعي والبريق والمسؤولية ورجال الاعمال. وسيارة (فورد) تدل على السرعة والدخل الجيد والشباب والعمل وعلى أعلى الطبقات السفلى الاجتماعية. أما (البونتياك) فتدل على زجاج واضح الرؤيا ... وفي وسط الطريق وامرأة متزوجة وأم، إخلاص ... انهماك ... كفاءة .. الخ. وتبقى تلك الصورة والمعاني عالقة في أذهان العامة وتتبدل ببطء، وقد تخفت الا انها لا تتبدل بسرعة.
2- محاربة الوحدة والاكتئاب، والوحدة كما يقول العالم النفساني (هاري سليفان) هي من أشد العواطف الكريهة التي لا تطاق، وقد اكتشفت احدى الشركات المنتجة لبطاقات عيد الميلاد (الكريسمس) والتهاني المختلفة أن احسن بطاقة يبعث لديهم احتوى على تصوير شجرة عيد الميلاد لوحدها، او صورة جبل وحيد مغطى بالثلوج، واكتشفت الشركة ايضاً أن اكثر مستعملي بطاقات المناسبات هم من المسنين أو الغراب أو العوانس او العجائز، أي الذين يشعرون ويقاسون الوحدة ويحاولون ان يبدوا لغيرهم بمظهر المرح الاجتماعي.
3- تقديم الضمان العاطفي، فالثلاجات البيتية والبرادات تقدم للناس ضماناً صلباً، ضماناً بوجود طعام في البيت. انها تعيد للكبار ذكريات الطفولة والامومة، اذ لا تجبن الام ابداً ظن طفلتها أو طفلها اذا ما طلبوا طعاماً، فالطعام غريزة يجب تطمينها. والضمان العاطفي يتغلب على حسابات وتقديرات الاقتصاديين من الناس لان ثمن الثلاجة ومصاريف الكهرباء الشهرية وما يتبقى من فضلات الطعام المجمد المحفوظ دون استعمال كل ذلك يكلف الفرد اكثر مما لو اشترى الطعام جاهزاً ليومه، والامثلة الاخرى كثيرة.
4- توفير التأكيد بالاهمية فأنواع الصابون ومساحيق النظافة لا تحتل مكاناً ثابتاً في قلوب النساء لأنها تؤثر على صحة وطراوة بشرة اليدين كما أنها تفضح قيامهن بمهمة الغسيل المتعبة المزعجة، فما العمل؟ يجب أن تؤكد الدعاية على أهمية الروحية كربة بيت نظيفة وفخورة بعملها، وهذا الشعور بالعزة هو المفتاح الى دعاية الصابون الناجحة، بالاضافة الى اشياء وتفاصيل اخرى دقيقة وينطبق نفس الحال على الادوية وشركاتها المنتجة التي تقوم بمهمة الترويج والدعاية لادويتها لدى الاطباء. فالطبيب تزعجه وربما تخيفه مختلف المستحضرات ذات الفروق الجزئية والاسماء المربكة والصفات المتاربة، ويلجأ وكلاء الدعاية لشركات الادوية الى الحيلة نفسها –أي بإشعار الطبيب بأهميته الشخصية في صرف الدواء وذلك بأفهامه أنه هو المهم وهو الذي يقرر ويستطيع الجزم بمفعولية العقار نتيجة تجاربه وخبرته-.وينتجنب رجل الدعاية بنفس الوقت الالحاح على أن الدواء شهير ومعروف ومجرب أو انه لاداعي لمناقشته.
5- تشجع على الاستمتاع الذاتي وهو ما يشابه المادة السابقة من التأكيد على أهمية الفرد، وخير مثال على ذلك ما يحدث في دور النشر أحياناً. فدار النشر قد تصدر كتاباً يباع منه عدد كبير ويبرز اسم المؤلف بأحرف ضخمة وتنشر الصحف ترجمة حياته او تذاع بالراديو وتقام حفلات التعارف وأغلبها على حسابه الخاص والنتيجة أن المؤلف ذاك قد يخسر ويبيع بعض ممتلكاته لأجل تحقيق غاية واحدة هي –ذيوع اسمه-. ويقول السيد ادلان مدير دار نشر (مطبعة المعرض): أن مؤلفي كتبنا مستعدون نفسياً ومالياً لخسارة مادية ...
بينما دور النشر الأخرى تعدهم بالارباح الطائلة .. فالمؤلف المغرور العاشق للمظاهر يجد له الناشر الملائم ليشبع غروره.
6- تبيع أبواب الابتكار، فالناس وخاصة الكبار من النساء والرجال يقفون أحياناً على ابواب اليأس والوحدة ويعتريهم ركود ثقيل إلا أن الدعاية تدفعهم الى مسالك مفيدة وخلاقة. فالبستنة والعناية بالحدائق تلذ للمسنين وبالهوايات والمسليات تبيع الشركات منتوجاتها.
7- الشعور بالقوة والسيطرة كما شرحها أدلر في نظريته الفردية عن السلوك إذ أكد اهمية –الانا- والذات وكيف أن سلوك الانسان يحركه اشباع الذات وتعاليها وسيطرتها، فمن الناس من يجدد سيارته كل سنة أو سنتين لأن السيارة الجديدة اللامعة تنفع في ميوله الاستعلائية.
8- تبيع الشور بالبغية والانتماء العريق، فالانسان يحن الى ذكريات طفولته الى مجالس آبائه واجداده الى احتفالاتهم ومناسباتهم المطبوعة في ذهنه، ولذلك اشار الخبراء النفسيون على احدى شركات انتاج الشراب باصدار دعاية تتضمن تلك النواحي العاطفية الحساسة وهكذا صدرت الاعلانات عن شراب (موجن دافيد) المجهول عند الكثير بأنه شراب الايام السالفة الجيدة و (شراب البيت الجميل) و (الشراب الذي اعتادت جدتنا العزيزة احتساءه). وتضاعف بيع ذلك الشراب في غضون سنة وارتفعت تكاليف دعايته الى مليوني دولار، وهي اعلى تكاليف لدعاية الشراب لحد الآن.
9- تبيع الشعور بالخلود، وهنا تبرز فعاليات شركات التأمين على الحياة التي تحاول جهدها أن تكسب عميلاً دون إشعاره بالكبر أو المرض أو العجز. غير أن اهم عامل لا شعوري يدفع الناس الى التأمين على حياتهم هو يقينهم بإستمرار وخلود تأثيرهم على أطفالهم من خلال المبلغ المؤمن –أي خلودهم كمصدر ثقة وطمأنينة لذويهم.
10- إثارة وترضية الغرائز الجنسية، عشق الذات والتطلع الى جمال الجسم وجمال الجنس الآخر نزعة أو غريزة مغروسة فينا. وتستغل الدعاية التجارية تلك النزعات الجنسية لترويج البضائع وأن الاستغلال مسألة اخلاقية وموضوع جدل. فالبضاعة البسيطة قد لا تشبع أغراض المنتج الطموح ولذلك اطرد الاقبال على اجتذاب الناس بالمناظر والصور.



الاقناع التجاري من وجهة نظر عالم نفساني (( الجزء الاول ))

الإقناع التجاري ([1])
بعد ما برز فيالقاموس الحديث إصطلاح –غسل الدماغ- على أثر حادثة تاريخية في اوائل النصف الثاني من القرن العشرين وتركزت حوله التساؤلات وتحولت نحوه الأنظار انحسرت موجة الدهشة والغضب وحلت محلها موجة من بحث ودراسة علمية حيادية واكتشف الانسان أن عمليات غسل المخ والتأثير والإقناع كانت تجري على نفسه وعلى غيره في كل لحظة من لحظات حياته المادية. ساعة من التأمل والتفكير الرزين أزاحت عن عيون الفرد الغربي حجباً كثيفة وكشفت له مدى وجود حرية الأختيار أو مدى فقدانها لديه وساعة التأمل تلك برهنت له أن ملبسه وطعامه وشرابه وسهراته والوان حيطان منزله وأثاثه ولعل كيفية أختياره لزوجته هي من ضمن عملية اقناع خفية سلطت على دماغه.
وعالمنا اليوم هو عالم الدعاية التجارية بحق يقوم المنتجون ويمارسونها على الزبائن وكافة الناس، والمنتجون تجار ... وللتجار @@@ التي ورثوها وأضافوا عليها بحكم الخبرة والممارسة لكنهم مهما بلغوا من الحذق فلا يمكن أن يسبروا الاعماق أو يفهموا النفس البشرية على حقيقتها كما يفهمها علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجي، لذلك راح المنتجون وأصحاب الشركات والبائعون الإعتياديون يستشيرون اولئل العلماء ليعينوهم ويبصرونهم بدروب الاقناع وجذب الزبائن وتسيير اتجاهات وعقول الناس نحو عملية الاقتناء والشراء. وقد تنوعت نواحي الدراسات الى درجة مدهشة وأذكر على سبيل المثال أن احدى مؤسسات الدعاية درست دورة الحيض عند ربات البيوت وما يطرأ على الأنثى من اضطرابات وتقلبات نفسية أثناءها لكي تجد لها منفذاً الى كيفية ترويج وبيع انتاجها من بعض مواد الطعام. ويشير البروفسور (كلايد ميلر) الى أن الانسان مخلوق من مجموعة انعكاسات شرطية على غرار اعتقاد بافلوف وإنه ما عمل رجل الدعاية إلا أن يعرف كيف يبني سلوكاً شرطياً في عقل المستهلك وهكذا شعر التاجر بأن عليه الاستعانة @@@ الاعماق النفسية ودارسي البواطن ليتمكن من اقناع الزبائن وبلغت محاولة الاستعانة بالخبراء النفسانيين الى حد أن جريدة (وول ستريت) الاقتصادية الامريكية قالت أن المنتج والتاجر في سعيها لزيادة الإستهلاك يندفعان الى عالم غريب من دنيا العقل الباطن ولنأخذ مثلاً الامرأة: انها تدفع دولارين ونصف (دينار عراقي) لشراء معجون أو كريم وجه للتجميل ولا تدفع أكثر من 20 سنتاً (100 فلساً) لشراء قطعة صابون .. لأن الصابون يجعلها نظيفة أما معجون الزينة فيجعلها جميلة –وهو الأفضل لديها- لذلك شرع أصحاب الدعاية يتحدثون عن الصابون .. والجمال بالإضافة الى النظافة فالمنتج يبيع وعداً والمرأة تشتري هذا الوعد بالجمال بالحقيقة ولا تشتري مجرد صابون ومنتجوا مساحيق التجميل لا يبيعون (دهم اللاتولين) وهو المركب الاساسي في معظم معاجين التجميل بل يبيعون الأمل بالجمال والفتنة. التجار إذاً رواد ميدان الدعاية منذ القدم وهم والمنتجون ينفقون في سبيل ذلك الأموال الطائلة فلقد بلغت نفقات الدعاية السنوية في شتى اقطار العالم البلايين من الدولارات أو الجنيهات ولا تزال في تصاعد مستمر، وكانت أضخم وأشد نفقات الدعاية التجارة في الولايات المتحدة وأوربا. ففي الولايات المتحدة قدرت نفقات الدعاية بـ 14500 مليون دولار عام 1964، وفي فرنسا بـ 3 بلايين فرنك سنة 1965 وفي تركيا بـ 4 ملايين ليرة، وفي المانيا الغربية بين 4-6 بلايين مارك، وفي لبنان بخمسة ملايين ليرة.
هذه الحاجة الى الاستشارة والدعاية أظهرت للوجود مؤسسات جديدة في المجتمع وهي وكالات الدعاية. وكالات الدعاية والمؤسسات الاستشارية التجارية اقتضت ضرورة اجتذاب الزبائن أن تستعين الشركات والتجار بخبرة العلماء. وكانت في بدايتها استشارات فردية وشخصية. وكانت دراسة الأعماق موجودة على نطاق محدود قبل الحرب العالمية الثانية حتى أن بعض المنتجين استشاروا الدكتور (واتسون) الشهير مؤسس النظرية السلوكية الكلاسيكية في علم النفس ... وكان الأستاذ (دال هوتسون) من جامعة نيويورك هو أحد الذين اقترحوا استخدام 18 صفة تزعج أو تقلق الانسان فتحثه على اقتناء بضاعة معينة لازالة تلك المزعجات منها مثلاً:- الصراع، الامساك، الغازات المعوية، السعال، تنخر الاسنان ... الخ. إلا أن الدراسات الجدية للأعماق بدأت بعد الحرب العالمية الثانية إذ تكونت هيئات ومؤسسات مستقلة وتعتمد على خبرة مشاهير علماء النفس والاجتماع مثل (@@@) العالم النفساني و (مورفي) العالم النفساني أيضاً و(جاردنر) عالم الاجتماع والأجناس في جامعة شيكاغو وهارفرد. كما صدرت مجلات تجارية خاصة منها مجلات (تايد، والعمل الاسبوعية، وعصر الدعاية، و وول ستريت) وكلها في الولايات المتحدة، وأصبح من إختصاص بعض وكالات الدعاية مجرد تقديم النصح الى @@@ شتى من الناس أو الشركات. فالمؤسسة الفلانية مثلاً ترغب في انتاج نوع معين من البضاعة فتقدم الى الوكالة المختصة وتسألها عن رأيها في التسمية أو اللون أو الاسلوب الدعائي. وتدرس الوكالة الموضوع المطروح بمساعدة خبرائها وبحدود امكاناتها ثم تتقدم بتعليماتها وبنصائحها مقابل أجر طبعاً وقد يبلغ الاجر اليومي للإستشارة التجارية الواحدة 500 دولار (حوالي 250 جنيه) فإذا ما ضربنا عدد أيام الإستشارة بالمبلغ اليومي أدركنا جسامة الأجور الاستشارية تلك.
ولعله ليس من المبالغة إذا قيل أن الولايات المتحدة بوكالاتها التجارية تستطيع أن تختار لك اصدقائك المناسبين وتقدمهم لك مثلما يقدمون لك المفروشات والأثاث لبيتك الجديد ... ولقد اتسع ميدان الاستشارات هذه الى حد أن لجنة العلاقات العامة قدمت نصائح الى رجال الكنيسة عن كيفية التأثير في الناس أثناء إجتماعاتهم الرئيسية واستأجرت احدى المؤسسات قاعة كاملة وعرضت سلسلة تلفزيونية دعائية محلية على ثانية من الخبراء من علماء النفس والاجناس والاجتماع وطلب رأيهم في الدعاية التجارية التي شاهدوها واقتراحاتهم وانتقاداتهم لها. ويلجأ المنتجون احياناً –مبالغة في الحذر- الى استشارة مؤسسين للدعاية لتتأكد من خطواتها المستقبلية وتوقياً لفشل لا تحمد عقباه. وكثيراً ما نتفق اراء مؤسسة ديختر مثلاً مع آراء معهد (جسكن) للألوان وهما أشهر مؤسسين في الاستشارات التجارية وأصبحت دراسة الميول والاتجاهات المسماة اختصارا (م.ر) ضرورة لكل منتج ورجل دعاية وكان مؤسسها وأول اعلامها هو الدكتور ديختر آنف الذكر الذي اطلق على هذه الابحاث بـ(اتبار الأعماق). ومن دراسة الاعماق خرج الغلبية بمفاتيح الميول والرغبات التي يمكن تعديلها وتخويدها لتكون سلاحاً دعائياً ماضياً ومن هذه المفاتيح المعرفة حاجة الانسان الى تقليد الغير ... الى الشعور بالأمن الى المتعة الحسية عن طريق الفم (الطعام) الخ.
وهنا يتقدم علم النفس والامراض العقلية بتزويد جوابي لأعماق النفسية. ويلجأ المحللون الى استطلاع نفسية المستهلك وكأنهم يستطلعون نفسية مريض نفساني. وقد يتم البحث مع مجموعة من عشرة مشتهلكين مثلاً أو يشعر الفرد بحريته وانطلاقه بين الجماعة. واستخدم جهاز كشف الكذب من قبل معهد الأبحاث والألوان لمعرفة تأثير الألوان في المستهلك، واستخدم (جيمس فيكاري) كاميرا سرية خاصة لتصوير درجة رفيف أجفان الناس تحت ظروف متعددة لأن رفيف الأجفان يدل على درجة توتر أو استرخاء عواطف الفرد، واستخدمت مؤسسة (رذروف وريان) التنويم المغناطيسي للكشف عن ميول العقل الباطن. لماذا مثلاً نستعمل البضاعة الفلانية ولماذا نحتسي الخمر الفلاني؟. ولكن كيف خدمت سيكولوجية الاعماق لفرويد ونظرية بافلوف رجال الدعاية؟. إن الاذكياء منهم يستثمرون الناس العصابيين على أنواعهم من ذوي المراق والوساوس وذوي المخاوف المتعددة والحصر والميول الجنسية المنحرفة من طلاب المقامرة او المدمنين فيضربون على الاوتار الحساسة في نفسياتهم التي لابد أن تلقي لها استجابة لديهم فتسد نواقصهم وتهدي من قلقهم المكبوت. ولايهم اصحاب الصناعة والتجارة صحة الفرد أو صحة المجموع. وهكذا يلجأ الخبراء الى مقاييس الشخصية ستبارات الذكاء لمعرفة مكامن الضعف والقواية. مثال ذلك: استخدمت استبارات زوتدي لإكتشاف الدوافع لدى شاربي الويسكي من قبل احدى المؤسسات الدعائية. وكان معروفاً لديها أن 85% من الويسكي يستهلكه حوالي 22% من شاربي الكحول، وهم الذين يحتسون كميات كبيرة. وتبين من نتيجة الاختبار الآنف الذكر أن الذين يحتسون أكبر كمية من الويسكي هم من الذين يتطلعون بالحقيقة الى تبديل شخصيتهم الواقعية بحيث يصبح الفرد الخجول المسالم قوياً صلباً ... الخ. وبذلك وجدت الدعاية التجارية مجالاً فسيحاً للضرب على تلك الأوتار.
ومن القواعد الثابتة في الإعلان تجنب النفي، فالإعلان عن السكاير يعد فاشلاً اذا جرى على مبدأ لا تخف .. ان السكاير لا تقتلك ... أو القول .. بعد تجارة عشرة اشهر أجراها علماء واخصائيون ثبت عدم حدوث تسمم مزمن أو حاد بالكحول ... فالأفضل دائماً أستعمال الدعاية الإيجابية التأكيدية الواقفة ... ومن الأمثلة الاخرى نذكر أيضاً أنه مرت حقبة من الزمن فتر فيها إقبال الناس على تناول الحلويات انسياقاً وراء الاعتقاد المعروف بأن الحلويات تؤدي الى السمنة وتنخر الأسنان. وجاء خبير المنتجين النفساني ونصحهم باستبدال الدعاية القديمة للحلويات والتأكيد على أن الحلويات (لذيذة ... منعشة ... وطعام مغذي ... كامل المزايا)، تم نصحهم أيضاً بإنتاج الحلويات بأحجام صغيرة ومقطعة على قدر مضغة أو نهشة وبذلك يعلل الفرد شراءه للحلويات بأنه سيقتطع وصلة منها وليس جميعها. واقترح خبيراً آخر بأن تقدم الحلويات كمكافأة للأطفال مثلاً وغيرهم وبذلك أصبح الإعلان عنها كما يلي:-
((إنك تستحق حلويات م.م ليغدو عملك الشاق هيناً ...)) ونجحت الطريقتان. وفي سنة 1956 استنكرت جريدة (ساندي تايمز) الطريقة الجديدة في الاعلان وهي الطريقة التي تدعى بـ(اعلان مادون الشعور) وكان مبتكرها أمريكي يدعى (جيم فيكاري) واستخدمها في صالات العرض والسينما. وكان يسلط بروجكتور ثانياً على الفلم الذي يجري عرضه على الشاشة بطريقة خاصة خافتة جداً تكاد أن لا تراها العين وبواسطة البروجكتور تظهر جمل وكلمات دعائية مثل –اشرب كوكاكولا- او –تذوق شوكولاته ن ن- وبما أن درجة وضوح الجمل تلك هي تحت الحد الشعوري فإنه يخيل للمشاهد أن ما يراه أو ما يكاد أن يراه هو ايعاز داخلي في عقله الباطن. فيتناول الشوكولاته او يندفع الى شرب الكولا وبهذه الطريقة زادت مبيعات الكوكاكولا الى السدس والشوكولاته الى اكثر من النصف. وقد استنكر معهد الاعلان والدعاية في انكلترا هذا الاسلوب المتنكر ونشر اعتراضه في كتاب اسماه (التوصيل تحت الشعور) في عام 1958 كما منع المعهد 243 وكالة اعلان من استخدام تلك الطريقة بقوله: "إن المواطن حر في اختيار او رفض ما تعرضه عليه الدعاية والاعلانات التجارية ... غير أن طريقة ما تحت الشعور تتعارض مع تلك الحرية. وحكاية التحفيز والحث الشعوري ليست حديثة بالحقيقة. اذ لمح لها ارسطو وتناولها بالشرح الفيلسوف لبينز عندما ذكر احتمال احداث الحوافز احساساً طفيفاً جداً قد لا يدرك المرء أنها حدثت فعلاً أو انه شعر بها حقيقة بينما يستدل عليها بعدئذ بنتائجها عليه فحسبز وهكذا اوضح @@@ في سنة 1910 كيف يمكن خفض درجة الصوت والكلمات المسموعة الى حد يكاد لا يسمع او كأنه صادر من الباطن. وفي عام 1955 قدم ديكسون دليلاً على أن الدماغ البشري يلتقط الحوافز مادون الشعور وأجرى ديكسون تجربة أخرى مماثلة لما فعله آدمز وذلك بأن أطلق بضعة كلمات على جماعة من الحاضرين بخفوت تحت درجة الشعور ولما سألهم عن الكلمات الأولية التي تخطر أو تقفز الى اذهانهم في الآونة أجابوا بالكلمات التي اطلقها لتوها.
وقد أشار (الدوس هكسلي) في ندوة تلفزيونية الى الحقيقة المرة وهي أنه اذا ما اكتشف رجل الاعلان القاعدة الناجحة في اعلانه استند عليها بكل ثقله واضاف عليها تعديلات وتحسينات مطردة وأنه قد يستغل نفس الاساس والقاعدة لاغراض دعائية اخرى كالدعاية الى انتخاب نائب أو رئيس.
الإعلان في التجارة:- يقال ان الاعلان بدأ منذ العهد الروماني إذ كان بائعوا الاصباغ والدهان يعلنون عن بضاعتهم بالكتابة بها أو بواسطة دفعات صخرية توضح ألوانها ونوعيتها. غير أن الاعلان والدعاية للبضائع والمنتجات بدا بصورة واسعة عندما أصبح الاستهلاك والتوزيع يشمل جماهير كبيرة وبضائع ثانوية لأن الاحتياجات الأولية الضرورية كالخبز واللحوم والخضراوات لا تحتاج الى دعاية كما أن القرية الصغيرة لا تتطلب ابواقاً من الحانك والخباز والاسكافي لإعلام الناس عن بضائعهم لأن الاعلان يتم هناك من الفم الى الاذن مباشرة وعندما صدرت الصحف والمجلات كانت خالية أول الامر من الاعلانات التجارية وكانت أولى صحيفة تنشر اعلاناً هي (ميركوريا بريتاينكوس) في عام 1922، وبعد أن اجتاح الحريق الكبير لندن ظهرت الاعلانات على نطاق واسع وكانت تدور حول المحلات والعناوين التي اعيد فتحها في محلات اخرى من المدينة بعد الحريق. وكانت صحيفة (نيوزلند) الصادرة في بوسطن عام 1704 أول صحيفة امريكية تنشر اعلاناً بأجر وكان اعلاناً عن سندات مفقودة.
وكانت الاعلانات القديمة مجرد اخبار حقيقية صادقة تلفت انظار القراء وانتباههم الى حدث او اختراع جديد. وتسللت الى الاعلانات روح المنافسة رويداً رويداً ثم @@@ الاجتذاب والفات النظر والحيل اللفظية والتشويق والاثارة مصحوبة بالرسوم والكاريكاتير والالوان. وكانت وسائل الاعلان تعتمد على التكرار أو استعمال الشعر والقافية الجناس. ومن اوائل الاعلانات عن البضائع كانت عن اصباغ اللحى .. اصباغ الاحذية .. الادوية السحرية لاعادة الشباب أو ازالة الصلع أو شفاء امراض الصدر. ولم يقتنع التجار بالصحف وحدها كوسيلة للأعلان لأن قراء الصحف محدودون فلجئوا الى لصق الإعلانات على الحيطان وبدأ فيض زاخر يغطي الجدران في كل مكان خاصة هي غير خاضعة للضريبة حينذاك، ولم تنتبه الدول الى تلك الحيلة التجارية إلا بعد أن @@@ قانون يمنع الاعلانات والملصقات على الجدران إلا بموافقة صاحب البناية وكان ذلك في لندن عام 1939. ثم تلا ذلك الاعلان بتوزيع المنشورات باليد بواسطة رجال متنقلين دعاهم (تشارلز ديكنز) برجال الساندويتش، إذ كانوا يحملون اكداس الإعلانات من أمامهم وخلفهم ثم لجأ التجار الى مشاهير الفنانين ليرسموا لهم مناظر ومواقف تساير خط دعايتهم. ومهما كان استنكار الناس لذلك واتهامهم لهم بإهانة الفن فإن الاعلان عن الانتاج التجاري باللوحات انتقل الى فرنسا. وكان الفنان (طولوز لوتريك) في مولان روج يرسم الحوادث اليومية في ذلك الملهى الشهير وكذلك فعل (جول شيري)، وفي عصر اللورد (تورثكليف) انتقل الاعلان في الصحف الى مرحلة خطيرة إذ اصبح الممول الرئيسي لحياة الصحيفة ذاتها.
والصحيفة التي لا تعتمد نصف نفقاتها –على الاقل- على وارداتها من الاعلانات محكوم عليها بالإفلاس والاحتجاب، كما اصبح الإعلان تجارة بحد ذاته ونشأت المؤسسات والشركات الدعائية المختصة كما ذكرنا. واصبح رجل الاعلان ليس مجرد ضابط اتصال او وكيل اعلان بل شخصاً مستقلاً ومكتفياً بعمله. واصبح الاعلان علماً نفسياً يستغل عواطف الامومة أو غرائز التقليد وحب السيطرة والرخاء والغنى وحب الظهور والتطلع الى كسب اعجاب الغير ومديحهم. كذلك استغل الإعلان تجارب بافلوف في خطوة الاقتران والتكرار بحيث أن الكلمة المعينة اذا ذكرت حل محلها في ذهن القارئ أو السامع مباشرة الموضوع أو البضاعة المقصودة في الدعاية ماذا ذكرت كلمة (هوفر) مثلاً تبارد الى ذهنه راساً @@@ الدعائي (ماكنة التنظيف والكنس) الكهربائية. وقد شرح هذه الارتكازات النفسية التجارية البروفسور والتر د. سكوت مدير المختبر النفسي في شيكاغو في سنة 1909 وذكر أيضاً كيف أن اصحاب الاعلانات يتجنبون الفكاهة والدعاية في الاعلان لأنه عمل جدي. إن الجدية المتعمدة تلك والخبرات النفسية والاجتماعية تقدم للمستهلك معلومات لا يمكن أن توصف بأنها حقيقة أو صادقة، بل مجموعة من أنصاف الحقائق والاكاذيب والمخالطات والمبالغات والمبهمات التي تحمل الوجهين أو الخداع بصورة عامة.
ويتجلى ذلك في الاعلانات عن الأدوية كما هو موضح في الأمثلة التالية:-
استعملوا الكلوكوز .. ستشعرون بالتعب لشدة حاجتكم اليه ....
للإمساك مضار .... حاربه باستعمال الملين –سين- ......
الروماتزم ينتج عن شوائب في الدم ... فاغسل الشوائب باستعمال ملح –عين- ....
فإذا شئنا الحقيقة العلمية كان الكلوكوز ضروري للجسم البشري فعلاً لكن الانسان لا يتعب اذا لم يتناوله مالم يكن مصاباً بمرض معين، وكل جائع يتعب أيضاً. كما أن الامساك لا ضير منه مالم ينتج عن امراض معروفة في الجهاز الهضمي، بينما استعمال الملينات بكثرة هو الذي يؤدي بالحقيقة الى مضاعفات وامراض. أما الروماتزم فهو تعبير غامض حتى على الاطباء، ومن ال@@@ عزوه الى شوائب في الدم. وينطبق الشيء نفسه على مساحيق الغسيل واعاجيبها، فالمسحوق الفلاني يحوي على المادة السحرية العجيبة التي اكتشفها خبراء لأحداث المزيد من فقاعات الأوكسجين، فاذا ما تحققنا عن ماهية تلك المادة السحرية اذا بها الـ(بيربورات) القديمة المعروفة .. كذلك حدث ولا حرج عن السكاير وانواعها واعاجيب الاعلانات عن مذاقها وروائحها، فإذا جئنا بمجموعة من المدخنين المزمنين واطبقنا عيونهم بالاربطة وقدمنا لهم أنواع السكاير ليدخنوها ويميزونها بواسطة الغليون لفشل أكثرهم في ذلك. وتحدث الدعاية الأعاجيب من الإقبال على المنتوجات حتى الشعب الإنكليزي المحافظ انطلت عليه حيلة تجارية امريكية.
فقد كان الانكليز يتناولون الزبيب المستورد من استراليا وافريقيا الجنوبية والذي كان يغمر أسواق انكلترا. وكان لدى جمعية الزراع الامريكان فائض ضخم من الزبيب أيضاً، فما كان من الجمعية الفلاحية تلك إلا ان تصرف 250 الف دولار خلال ستة اسابيع على لندن وحدها واحتلت الدعاية عن الزبيب بدون نواة كل أتحاد لندن من باصات وجدران وزوايا وقطارات تحت الأرض وكانت النتيجة أن بيع من الزبيب الامريكي 20 الف طن خلال سنة واحدة. وجاء التلفاز بعد السينما ليقدم ميداناً فسيحاً للإعلان التجاري مصحوباً بالموسيقى والأغاني والتمثيليات القصيرة جداً، ثم ظهر التلفاز التجاري ذو القطاع الخاص كما ظهرت السيارات حاملات اللافتات والمذياع التجاري وهكذا فإن ارخص البضائع وأبخص القيم يمكن أن تباع بالإعلان المتكرر والمثابرة. انه المستمر على العقل البشري لتدق فيه الافكار والاتجاهات كما تدق المطرقة على مسمار ويكون الطرق اقل جهداً واسرع مفعولاً عند الناس القلقين أو ذوي الوساوس والمراق والشكوك، وتزداد حمى الدعاية واللغو النفساني كلما تراكمت البضاعة لدى البائعين والمنتجين وارتاعوا من كسادها إلا أن النتيجة خداع وارباك للفرد المستهلك ويعترف (دافيد اوجيلفي) أحد رؤساء مؤسسات الدعاية والاعلان بقوله: "لايوجد في الحقيقة فرق ذو شأن بين مختلف أنواع السكاير ... ولا في أنواع الويسكي ولا البيرة ... إنها جميعاً في حكم السواء وكذا أنواع الكيف والمساحيق والمعاجين والسيارات! ... ".
ويتوقع المراقبون أنه اذا صدرت قوانين حكومية تمنع الاعلان التلفزيوني عن السكاير فسوف تخسر محطات التلفزيون في الولايات المتحدة الامريكة فقط حوالي 200 مليون دولار سنوياً تربحها من تلك الاعلانات. الا أن الحرب الإقناعية للتدخين ستستمر ... وما تنفقه الشركات على الاعلان التلفزيوني تستطيع استغلاله في مجالات اعلانية اخرى كاليانصيب والجوائز والهدايا وربما في البحث العلمي أيضاً عن فوائد التدخين أو مضاره الموهومة.






([1]) نشرت في مجلة العلوم، العدد 12، 1970.