Dr.dabbagh

الاثنين، مايو 27، 2013

مقال اخر مهم حول النسبية في الحياة


نسبية ..!؟ ( [1] )  
لم يخطر ببال الطبيب، وهو الذي كرس حياته لمحاربة المرض والجرثوم، لم يخطر له أن يسأل نفسه هل أن هذا الجرثوم مجرم بالحقيقة يستحق الاعدام؟ .. قد يكون هذا سؤالاً غريباً لأن من البديهي أن الجرثوم يستحق الهلاك لأنه يسبب المرض للإنسان .. ولكن الحقيقة أن الجرثوم بريء مسكين .. ولكن كيف؟ .. لقد وجد الجرثوم وكان من طبيعة تركيبه أن يسبب المرض فميكروب السل مثلاً له تركيب معين وطبيعة ثابتة وقد صادف أن لا يعيش هذا التركيب وأن لا تنتعش هذه الطبيعة إلا في جسم الانسان. وليس للميكروب إرادة واعية تبعده عن هذه البيئة وعن هذا الطعام الإنساني. إن تركيبه يحتاج الى هذا الطعام وهو مضطر أن يلتهمه.
وكما أن من طبيعة الملح أن يذوب في الماء وليس في استطاعة الملح ألا يذوب ان وجد في الماء، فمن طبيعة الجرثوم كذلك أن يسبب المرض إن شاء أو أتى. وهكذا نرى انه بريء مسكين.. مكره على أمره.. وليس مسؤولاً عن المرض الذي يسببه، ولكن هل أن هذا يمنعنا عن محاربة الميكروب والقضاء عليه؟ ... كلا .. فإننا وإن اعترفنا أنه غير مسؤول من الناحية المجردة ولكنه مسؤول بالنسبة الينا لأنه يسبب لنا ضرراً. ومن هذا المثال البسيط نتبين كيف أن المسؤولية قد تكون معدومة من الناحية المجردة ولكنها فعالة قوية من الناحية النسبية. وفي المجتمع الإنساني صور عديدة لهذا الاختلاف الظاهري بين التجريد والنسبية وان مسؤولية الفرد امام مجتمعه هي من أبرز هذه الصور. فقد يصدر القانون حكماً بإدانة شخص لا لأنه مجرم فعلاً بل لأن عمله يهدد سلامة الجميع. ولنأخذ أقرب مثال على ذلك وهو المجرم الجنسي. فإن المجرم الجنسي يرتكب جريمته لأنه منحرف الميول الجنسية، وقد تغلغل هذا الإنحراف في وعيه وكيانه بحيث لا يمكنه أن يتصرف إلا في حدود هذا الإنحراف.. أي أن سلوكه أصبح آلياً خالياً من الشعور الإجتماعي. ولا يمكننا في هذه الحالة أن ندين آلة خطرة لا يمكن أن تعمل إلا في حدود تركيبها ولكن يمكننا أن نوقف هذه الآلة عن عملها ثم نحاول أن نغير من تركيبها أو نغير من الظروف التي خلقت هذا التركيب لتعود بعدئذ الى عملها المفيد الطبيعي. وكذلك القانون فإنه يحجر المجرم الجنسي ويحاول اصلاحه لا لأنه مجرم بل لأنه مريض يهدد صحة المجتمع الإنساني.
وقد فتح علم النفس أفقاً جديداً فيما يخص دقائق السلوك الانساني ومسؤولية الفرد امام القانون، وبينما كان القانون قديماً يدين الفرد على أساس فعله فقط دون النظر في ظروف ذلك العمل وفي تركيب ذلك الفرد أصبح القانون الآن يستهدي بما يكشفه له علم النفس من حقائق عن النفس البشرية وسلوكها في المجتمع وصلابته التقليدية اللفظية وأصبح القتل لا يعني مجرد القتل بل يعني أشياء كثيرة قد تخفف من مسؤولية القاتل. وأصبح القانون اداة اصلاحية لا عقابية. وعلم النفس بتطوره السريع لا ينفك يكشف عن حقائق كثيراً ما تخفف من مسؤولية الفرد أمام القانون، ولا ينفك القانون يتطور مع علم النفس كلما آمن بحقيقة تلك الكشوفات .. ولكن القانون لا يمكنه أن يستمر في هذا التساهل لا لأنه لا يؤمن بما يكشفه علم النفس بل لأن القانون هو من وحي المجتمع وعليه أن يسير دائماً بالنسبة الى ذلك المجتمع .. أما علم النفس فإنه يقرر حقائق علمية مجردة، ومن هنا يفترق القانون عن علم النفس ولكنه افتراق ظاهري بالحقيقة. ان القانون وسيلة او نظام أوجده المجتمع لحفظ سلامته ومهما يحاول العلم أن ينفي المسؤولية عن الفرد فإن المجتمع مضطر ان يحمله مسؤوليات تحفظ له كيانه ولكنه في الوقت نفسه يحترم ما يكشفه له العلم ويستخدم هذه الكشوفات لإصلاح مثل هؤلاء الأفراد.
فالتجريد إذاً ذو قيمة علمية فلسفية تهدي المجتمع الى اصلاح كل عضو مريض فيه ... والنسبية إذاً ذات قيمة إجتماعية فعالة لأنها وسيلة للمحافظة عليه.



( [1] ) نشرت في مجلة أخبار الكلية الطبية، العدد 1، 1950.

0 Comments:

إرسال تعليق

<< Home