Dr.dabbagh

الجمعة، يناير 20، 2017

في الذكرى 33 لوفاة الدكتور فخري الدباغ

مقال من قبل وئام فخري الدباغ كتب في 18-1-2017 :

لطالما تساءلت بينى وبين نفسى..لماذا نتذكر دائما تاريخ يوم الوفاة ولانتذكر تاريخ يوم الولادة لناس اعزاء علينا..فالذكرى التى طالما يحتفى بها الكتاب والشعراء هى ذكرى الوفاة وتقام الاحتفاليات بيوم ذكرى الوفاة وليس بيوم الولادة..؟ سؤال طالما حيرنى خصوصا عندما تقترب ذكرى وفاة والدى...حيث نفاجأ انا واسرتى بمقالات تكتب عنه او قصيدة تلقى بذكراه او تكريم رسمى له...سالت نفسى يوما هل اتذكر تاريخ ميلاد ابى ...واستغربت اكثر لاننى اكتشفت اننى اجهله وكل ما اعلمه هو سنة ولادته حيث عرفتها من خلال ما كتب عنه ومن سيرته الذاتية بعد وفاته...ترى ما السبب! جرنى حبل التفكير الى يوميات من حياة ابى..صور ذكريات كثيرة دارت فى ذهنى...وقرأت صفحات عديدة من كتاب حياته معى ومع الناس من مختلف الاعمار والمستويات...ساقوم بسرد بعضا منها لكم لتتيقنوا معى بان الجواب الذى توصلت اليه هو الصحيح وهوالحقيقى حيث لامجال للخطأ على الاقل بالنسبة لوجهة نظرى.
 
عندما يقبل مولود جديد على الاسرة نجد ان الجميع يستقبلونه بالاحضان والقبلات والابتسامات والضحكات رغم اننا لانعرف عنه شيئا وربما يكون ذلك حتى قبل اختيارنا لاسمه ونحاول تشبيهه بامه او ابيه وربما عملنا له احتفالا بسيطا بالبيت عند استقباله كل هذا ونحن لاندرى عن صفات المولود الجديد شيئا هل هو خيرا ام شريرا...حسن الطبع والخلق ام عكس ذلك...نافعا للناس والمجتمع ام ضارا بهم...وربما لاينفع ولايضر...المهم ان هذا الضيف الجديد سيشغل الاسرة ويعم الفرح بوجوده...وعلى العكس فعندما تفقد الاسرة شخصا سيودع بالبكاء والحزن والاسى والنحيب مهما كانت صفاته..مع فارق واحد هو ان الناس والمعزيين سيتكلموا عن الفقيد نفسه وعن صفاته واخلاقه ..عن منفعته ..عن علمه..وما قدمه للمجتمع والناس ويكون التركيز هنا على صفات الشخص نفسه وماعرف عنه وليس بالتشبيه باحد او التركيز على المجهول من الصفات لان كل شىء عنه اصبح معروفا لدى الناس من صفاته الشخصية الى قدراته ومواهبه ومنافعه والغريب ان الذكرهنا يركز على الصفات الجيدة فقط ويبدأ الناس بسرد سيرة الفقيد وحياته وكيف كان كذا وكذا وكذا....وكيف فعل ذلك وتلك...فتظهر الافعال والاعمال على السطح... فتعرف عن الفقيد وتكتشف اشياء كثيرة لم يكن احد يعرفها سابقا حتى اقرب المقربين له..وهنا تتجسد الحقائق وتصبح الصورة اوضح لحياة ذلك الفقيد ويبدو لاسرته واهله وناسه وكأنه شخصا او انسانا اخر..عندها تنكشف حقيقة ذلك الانسان ...ويتجسم حجم الفقدان وتتقلب القلوب ما بين الفرح والفخر بتوديع ذلك الفقيد وما بين الحزن والاسى لاننا لم نقدر او نعرف قيمة ذلك الشخص قبل ذلك...نفرح بمن يشاركنا الاحزان...ونحزن على انفسنا وعلى من فقدوه معنا..نفرح بذلك الاحتفاء الكبير والسيرة العطرة والذكرى القيمة والغنية ...ونفرح بتلك الثروة المعنوية التى يتركها لنا هؤلاء ... ثروة باقية لاتنضب من كثرة الذكر والتذكر..وتزداد المآقى ذرفا للدموع..ويزداد القلب نزفا وألما..لكن يبقى فعل العزاء والوداع فعلا احتفاليا قد لانرى مثيله عند الولادة.

ومما يدعو الى العجب احيانا اننا نبكى اناس فقدناهم ونحن على غير معرفة بهم..نبكيهم بعد ان نسمع عنهم وعن سيرتهم واعمالهم..وكأننا نبكى انسانيتهم او نبكى حظنا العاثر لاننا لم نتعرف عليهم او نصاحبهم فى الدنيا..انا شخصيا بكيت الكثير...بكيت وحزنت على الحريرى بعد ان سمعت ما قدم للناس والمجتمع واستمر حزنى عليه اياما طويلة ...بكيت د.عبد الله شحاته..الذى كان يقدم برنامج دنيا ودين وينصح الناس بكل اعتدال ومحبة وحنان وكأنه اب حنون ورحيم باولاده...بكيت مدرستى فى الثانوية بعد سماعى خبر وفاتها من والدتى ...بكيتها بكاء الاطفال على شىء اضاعوه...بكيت شهيدتنا الغالية فى طرابلس.. زينا(ام جبريل)..بعد ان علمت ما قدمت للناس والمجتمع والارامل والايتام وما فعلت وقدمت لحياتها من عبادات وطاعات..وانا لم تربطنى بها سوى علاقة القرابة بين ابيها وزوجى..ورغم اننى لم التق بها الا بضع مرات فى جلسات عائلية الا ان حزنى عليها كان كبيرا واخذ منى وقتا طويلا بالتحسر على الايام التى ضاعت منى ولم اكن اتواصل معها او اكون بصحبتها ..حيث كان لوداعها احتفالية ضخمة وكان بحق عرسا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ...وبكيت ..وبكيت الكثير.. وان دل هذا على شىء فانما يدل على ان هناك نوع من البشر ممن يترك أثرا عميقا فى حياة الناس بدون ان نشعر بهم لكن بعد ان يغادروا الحياة تنكشف حقيقتهم ويتكلم الناس عنهم فيتواصلوا معك وتتواصل معهم من خلال الاخبار والاحاديث والاحتفاءات بهم ...فلا تجد فعلا تفعله سوى البكاء والحزن ..او ربما هو الغبطة والتمنى والرغبة فى ان تصل الى ما وصلوا اليه ...او ان تكون مثلهم..وهذا كله لايحدث الا بعد فقدانهم ..وبعد وفاتهم.
حينما اقلب صفحات من كتاب حياة ابى  المطبوع فى ذاكرتى تتجسم الكثير من الصور امام عينى فارى مالم استطع رؤيته بصورة واضحة وهو على قيد الحياة وتبدو المواقف والافعال اكثر ادراكا وفهما لى..حيث تكتمل اللوحات وتضاف عليها كل التفاصيل المهمة والدقيقة من اجل ان تظهر للرؤية اجمل واحلى وابهر ...وتنكشف تفاصيل الحياة اليومية التى عاشها والدى مع الناس والتى لم نكن نعرف عنها شيئا اثناء حياته فندرك مدى تاثيره على هؤلاء الناس وعمق الاثر الذى تركه فى نفوسهم ومدى حجم المشاعر والاحاسيس المتبادلة بينهم والتى ان دلت على شئ فانما تدل على ان مازرعه والدى فى قلوب هؤلاء البشر من الحب والتقدير والاحترام والانسانية اصبحت له جذورا عميقة ممتدة الى اعماق قلوبهم ونفوسهم وذاكرتهم فكانت لهم ردود افعال لفقدانه هزت مشاعرنا جميعا وفجرت ينابيع الدموع من مآقيهم ومآقينا واضافوا الى يوميات حياته الكثير من التفاصيل التى لم نكن نعرفها عنه فاكتملت الصفحات بالتفاصيل والاحداث واضيفت الى صفحات كتابه ولم تعد بحاجة الى التنقيح والتصليح لان سرد الاحداث والمواقف والافعال كان حقيقيا وصريحا وصادقا من الناس فلم يعد هناك ما يدعو للمجاملات بعد ان غادر والدى الحياة وكنت كلما قلبت تلك الصفحات تتزاحم فى ذاكرتى الصور فاجد نفسى حينا حزينة ويغلبنى البكاء واحيانا اخرى اجد بعضا من الضحكات والابتسامات تملاء وجهى واشعر بالفرح والفخر ..وربما شعرت بالحسرة والمرارة او ينتابنى الحنين والاشتياق له الى تلك الدرجة التى اخدع بها نفسى فاردد دعاءا لله واقول واتمنى.. الا ليت السماء تنشق ولو للحظة واحدة وينزل من فقدناه لمدة لا تتعدى ثانية واحدة فقط لكى اعانقه واقول له كم احبك ياابى ...وكم انت عزيز على ..وكما اشتاق لدفء احضانك ...وكم ...وكم ...وكم .
 اتذكر وانا طالبة احضر للماجستير ..كنا انا وصديقتى وهى ايضا زميلتى فى الماجستير نجلس امام مدخل الكلية الرئيسى وكنا نتبادل الاحاديث المختلفة فتوقفت فجاة عن الكلام وقالت ..سبحان الله لك نظرات وابتسامة تشبه نظرات ابيك فقلت لها لااعتقد .. فقالت: تذكرنى نظرتك بموقف حصل مع والدك عندما كنت طالبة فى الطب وهنا فى نفس هذا المكان .. ..حيث كنت يوما مخالفة للزى الموحد واعجبتنى زهرة جميلة فى احدى لاحات الكلية الموجودة امام المدخل والتى كنا انا وهى نجلس بقربها وكان والدك يمر صباحا ويتجه للمدخل فرآنى واتجه نحوى وكنت اتصور انه سيوبخنى او يعاقبنى لكنه اقترب منى وابتسم ونظر الى بنفس هذه النظرة (والتى تدل على معنى) وقال لى (باللهجة الموصلاوية) :يعنى هم مخالفة للزى الموحد وهم عتقطفين الزهور من الحديقة! ثم تركنى وانصرف ..جعلنى اشعر بالخجل واعطانى درسا لن انساه خصوصا انه كان مرتديا بدلة بنفس الوان الزى الموحد ..لقد كان موقفا لن انساه رغم انه لم يجرحنى ولم يحرجنى باى كلام لكنى فهمت الدرس جيدا.. ثم رددت وهى تبتسم وتضحك وتقول الله يرحمه الله يرحمه كان راقيا بتصرفاته وحديثه..هذا احد المواقف لطالبة من طلابه.. وتذكرت كيف انه طلب مرة من والدتى ان تبحث له عن اقمشة جيدة باللون الرمادى والنيلى ليوصى الخياط بخياطة بدلة له وعندما سالته والدتى عن السبب قال لها بما اننى عميد الكلية فسوف ارتدى الزى الموحد حتى عندما يرانى الطلاب مرتديا له وانا عميدهم يحاولون هم ايضا ان يرتدوه واكون قدوة لهم ولاتكثر المخالفات والعقوبات ..وكأنه يوجه رسالة صامتة لهم..لم استطع حينها ان ادرك اهمية ذلك اثناء حياته الا بعد ان حكت لى صديقتى هذا الموقف الذى حصل معها وكان ذلك بعد وفاته ...فعلا لقد كانت نظرته للامور اشمل واعمق ...وقد ادركت ذلك بعد سماعى لهذا الموقف من صديقتى والتى تذكرته وذكرته لى بعد ان توفى والدى.
 فى موقف اخرواثناء دراستى للماجستير رغبت ان اعرض اطروحتى بالسلايدات فنصحونى الزميلات والزملاء بان اطلب مساعدة موظف فى الكلية كان مسؤولا عن عرض السلايدات ووسائل الايضاح فى الكلية سواء للاساتذة او الطلاب لان الجهاز كبير ويتسع للكثير من السلايدات وحتى لا اشغل نفسى اثناء المناقشة بتشغيل الجهاز واركز فقط على الشرح والاسئلة المطروحة على.. فذهبت اليه وطلبت منه ذلك وكان مرحبا بى جدا وقال لى(انا سعيد جدا ان اقدم هذه الخدمة لابنة اخى واستاذنا جميعا وشخص عزيز وغالى علينا) وفى يوم المناقشة ذهبت باكرا وعند دخولى للقاعة لكى اقوم بالترتيبات اللازمة وجدته جالسا فى وسط القاعة وقد وضع له طاولة صغيرة وكرسى وكان يحاول تجربة عرض السلايدات ليتاكد من كل شىء..ثم رأيته ينظر الى بطريقة وكأنه يتذكر شيئا ما والابتسامة الحزينة على وجهه ثم قال لى :اتدرين من كنت اتمنى ان يكون معنا فى هذه القاعة؟ فقلت له وبنفس الابتسامة نعم ادرى واعرف جيدا لكن ارجوك لاتكمل ولاتقل شيئا فالسكوت فى هذه اللحظة اسلم ...وانتهت المناقشة وانشغلت بعدها ولعدة ايام بالتصليحات وامور الطبع وغيرها لكنى لم انسى هذا الرجل ومايجب ان اقدمه له جزاء لخدمته فارتأيت ان اقدم له مبلغا من المال ووضعته فى ظرف وزينته بشريط الهدايا حتى يبدو وكانه هدية وليس مجرد مبلغ مادى لخدمته وبحثت عن غرفته الصغيرة التى كان يجلس فيها عند العمل ومليئة بالاجهزة وغيرها من وسائل الايضاح والتصوير وعندما دخلت قام وسلم على والفرحة تبدو عليه ويردد اهلا بابنة الغالى علينا والف مبروك عليك الماجستير فشكرته وطلبت منه ان يقبل منى هذا المبلغ كهدية متواضعة لاننى بصراحة لااعرف ماذا اشترى له...وفجاة رأيته يقول لى وهل تتصورين اننى ممكن ان استلم منك اية هدية او جزاء على خدمتى لك وانهار امامى بالبكاء الشديد وارتبكت امامه لااعرف ماذا اقول وكيف اهدأ من روعه.. هذا الرجل الكبير فى السن ومن اقدم الموظفين فى الكلية يبكى امامى ويقول وهل تتصورين ان اخذ من ابنة اخى وعزيزى والغالى على واستاذى ومعلمى شيئا مقابل هذه الخدمة البسيطة لك ...اه يا ابنتى لو تعرفين الجرح الذى تركه فقدان والدك فى قلبى.. اه لو تعرفين مدى محبته ومعزته فى قلبى ...ووقفت مبهورة امامه لاادرى ماذا اقول وكيف اعتذر له ..فلم يعد هناك كلمات تقال ...لكنى حاولت ان اهدأ من روعه وان اجعله يدرك ان هذا المبلغ ليس شيئا مقابل خدمته ولكنى فقط احببت ان اهديه شيئا تعبيرا عن شكرى وامتنانى له كهدية فقط لاغير وحاولت ان اعتذرلكنه اقتنع بعد ذلك وقال ان هذه الدموع والانفعال هو مجرد انفجار للعواطف والاحاسيس المكبوتة داخله من زمان وربما ماحصل كان كالدبوس الذى فجر البالونة ...ثم عدت لزيارته بعد يومين لاطمأن عليه حيث لم استطع نسيان ومحو هذا الموقف من ذاكرتى ...وهذا مايتركه البشر من امثال والدى من محبة وتقدير واحترام عند الاخرين ...ذكرى يبقى اثرها كبيرا فى قلوب الناس قابلة للنزف فى كل لحظة وزمان وعالقة فى الاذهان.. والتى لولا وفاته لما صادفتها ابدا.
 موقف اخر ...اعلن عن انتهاء الحرب العراقية الايرانية وفرح الجميع بذلك وكنا نتبادل الاحاديث بجلسة اسرية ثم لاحظت ان والدتى يبدو عليها الحزن فسالتها ماذا يزعجها فردت على وقالت :اه كم كنت اتمنى ان يكون والدك معنا الان ويبادلنا الفرح بانتهاء الحرب لانه كان يقول دائما لى كم اتمنى ان تنتهى الحرب ...فقلت لها وماالذى جعلك تفكرين بذلك؟فقالت كان بالفترة الاخيرة كلما رجع من المركز الطبى يبدو عليه الحزن والتفكير وكانه يحمل على اكتافه هما كبيرا وعندما احاول ان اخفف عنه يقول لى وباختصار شديد :كم اكره هذه الحرب اللعينة واتمنى ان تنتهى ...وقد اعترف لى مرة بان معظم المرضى الذين ياتونه فى المركز يعرفون جيدا انهم لايعانون من اى مرض معين لكنهم يريدون فقط ان يتكلموا ..يعبروا عما فى داخلهم من الحزن والقهر على اولادهم والشهداء الذين فقدوهم..وروى لها كيف جاءه مرة رجل ..وهواب لولدين شهيدين وجلس امامه ثم انفجر بالبكاء الشديد وحدثه عما يجيش فى اعماقه من الحزن والتمزق والاسى على اولاده والاكثر من ذلك انه عندما يحاول ان يخفف عن حزنه ويرغب بالتحدث مع زوجته ويشكى همه لها يجدها هى ايضا حزينة ويشفق عليها ويتالم لها ويضطر ان يخفى مشاعر الحزن والالم عنها فلم يكن منه سوى ان يزور والدى ليجد انسانا يتكلم ويتحدث معه ويخفف عنه ...ويحمل والدى هموم هؤلاء على اكتافه ويحزن لحزنهم وهذا ما جعل والدتى تذكره فى ذلك اليوم الذى انتهت فيه الحرب...حدثا لم يشهده والدى ولكنه تمنى ان يكون ويحدث لانهاء مآسى الناس والتخفيف عن همومهم...موقف انسانى جميل منه ...ورغم ذلك لم نشعر نحن اولاده يوما بان الحمل على اكتافه كان ثقيلا الى هذه الدرجة حيث كنا دائما نراه مبتسما هادئا وكأن الحياة خالية من الهموم والاحزان.
 (لقد خلقنا الانسان فى كبد)... اية قرانية كنا انا وزوجى يوما نتناقش بمعناها فى الصباح حيث من عادته ان يقرأ القران بعد صلاة الفجر وكان يردد هكذا الانسان يتعب ويشقى فى الحياة الى اخر لحظة من حياته ومهما كانت شهادته وعلمه ومهنته فكل شى سينتهى ...وتذكرت لحظتها موقفا حصل مع ابى ...كنا فى فصل الصيف وحكت لى والدتى صباح احد الايام كيف قضت ليلة مزعجة لقلقها على والدى حيث كان من عادته ان يجلس فى الحديقة ويسهر اما ليكتب اذا كان لديه مشروع تاليف كتاب او عمل بحث او يقرأ لمجرد المطالعة كهواية واحيانا كان يدخل الى غرفة الضيوف ليشغل جهاز الاسطوانات الكبير ويسمع الموسيقى الكلاسيكية الهادئة وهو يطالع الكتب او يكتبها وعندما طلبت والدتى منه ان يكتفى بما فعل بالساعات الماضية وان يحاول ان ياخذ قسطا من النوم والراحة قال لها بان تصعد الى السطوح (حيث كنا ننام بالسطوح فى ذلك الوقت) وهو سيحاول اللحاق بها بعد ان يغلق الابواب ويطفىء المصابيح ..فتركته والدتى وصعدت لتنام وقد غلبها النعاس ولم تصحو الا فى ساعة متأخرة من الليل وعندها استغربت بعد ان رأت مكان والدى وكأنه لم ينم عليه مطلقا ورأت باب السطوح مفتوحا على مصراعيه فاصيبت بالقلق واسرعت بالنهوض لكى تطمأن عليه..ثم نزلت للطابق الاول ونظرت الى ساعة الحائط فوجدتها قد قاربت على الرابعة فجرا فاصابها القلق اكثر خصوصا عندما رأت كل المصابيح مضاءة كما تركتها قبل النوم ..فنزلت للطابق الارضى وبدأت تنادى على ابى ولا من مجيب الى ان وصلت لغرفة الضيوف وذهلت لما رأته ...حيث وجدت والدى ممددا على الكنبة وقد غلبه النوم والتعب وقد سقطت نظاراته على وجهه وسقط الكتاب الضخم الذى كان يقرأه على وجهه ايضا وكان يغط فى نوم عميق من كثرة التعب والاجهاد بحيث انها استغرقت لحظات لحين استطاعتها ايقاظه وقد ترك كل شىء على حاله من الابواب المفتوحة والمصابيح وحتى الاسطوانة كانت قد انتهت وبقيت الابرة تدور وتدور... كانت والدتى تحكى لى الحكاية وكأنها رواية بوليسية ...وكانت تردد الحمد لله انه لم يحدث شىء لوالدى حيث كان من المحتمل ان نتعرض لدخول اللصوص او السرقة او اى اذى لوالدى ..ولكن حزنها كان اكثر عليه وهى تردد ..لاادرى لماذا يتعب والدك نفسه اكثر من اللازم ويحمل نفسه اكثر من طاقتها وكانت عندما تلومه يقول لها انا متمتع بهذا العمل واحبه ..مرت هذه الحادثة امامى كأى حادثة عادية خصوصا بعد ان مرت بسلام ولم تثير عندى سوى الاحساس بمدى حب وعشق الكتابة والتأليف لدى والدى وكيف انه مستمتع بها رغم التعب والاجهاد الذى يعانى منه...لكن الغريب فى الامر اننى تذكرتها عندما كان زوجى يقول نحن نتعب ونركض ونلهث فى الحياة ونتصور اننا نفعل شيئا لانفسنا ولحياتنا فى الوقت الذى يحدثنا القرآن على ان الحياة كلها تعب وارهاق ولهث...وان الراحة هى فى النهاية والاخرة ومع ذلك فنحن لا نعمل لاخرتنا الا الشىء القليل فبدأت بسرد هذه الحادثة له وكنت اسردها بنفس الطريقة التى حكتها لى والدتى وكان زوجى يتلهف ليسمع تفاصيل ونهاية الحدث هذا..لكن الغريب فى الامر اننى عندما وصلت الى هذه النقطة بالذات( وكان الكتاب قد سقط على وجهه وسمعت والدتى صوت انفاس والدى المتحشرجة نتيجة لجثوم النظارة والكتاب على وجهه..)عند هذه المرحلة احسست بان فيزيولوجية جسمى قد تغيرت حيث بدأت ضربات قلبى بالتسارع ونبرات صوتى بالارتجاف ..ثم اصبحت مخنوقة الانفاس وكاننى احسست بثقل ذلك الكتاب على صدرى ولم استطع تحمل تلك الغصة فى حلقى فانفجرت بالبكاء الشديد وانا اردد (واحسرتى عليك ياابى ...واحسرتى كم تعبت وكم جاهدت وكم وكم وكم..) ...ونظر الى زوجى وكانه يلوم نفسه ويقول اننا نتناقش باية قرآنية مجرد مناقشة لم اقصد بها ايلامك...فاشرت له بالسكوت لانه لاذنب له بذلك وانما هى ردود فعل غريبة لم اعرف مغزاها ومعناها ولماذا لم تحدث لى عندما روت لى والدتى ذلك...وكاننى لم اشعر بتعب وجهد والدى الا فى هذه اللحظة او لربما لاننى فقدته واحسست بأن هذه الحياة فعلا انما هى كبد وتعب ولهث وبعد اكثر من 30 سنة على فراق والدى...خصوصا انه توفى بحادث فجائى لم يخطر على بال احد فخطفه الموت منا على حين غفلة ادركنا بعدها بان هذه الحياة ليست لها اية قيمة ..وان كل مايفعله الانسان بحياته ليس له قيمة سوى شىء واحد هو قيمة مايقدمه لحياته (واقصد هنا حياته الحقيقية وهى الاخرة)من كل الاعمال الطيبة لنفسه ولمجتمعه وللعلم والانسانية وكل ما امرنا به الله مما يعود بالمنفعة للانسان ولحياته وللاخرين ...وربما ..كان هذا السبب الذى جعلنى اشعرواقدر التعب والجهد الذى بذله والدى فى حياته فابكانى... وفى موقف اخر ...ترك عندى رد فعل كبيرهو كيف يمكن لحفيد ان يبكى جده بدون ان يراه لانه ولد اصلا بعد وفاته... كنت دائما اشجع اولادى أن يقرأوا عن حياة جدهم خصوصا بعد ان اسس له اخى موقعا خاصا على النت وكنت دائما احدثهم عنه وقد جلبت لهم معظم مؤلفاته وتحملت عناء حملهم عند السفر من اجل ان اوصل لهم هذه الثروة التى تركها والدى وهى اغلى ما يورثه اب لاولاده ...العلم النافع ...وفى يوم من الايام وبعد الحاح منى حاول ابنى ان يقرأ ويستطلع حياة ومسيرة جده وعندما انتهى من ذلك جاءنى يحمل فى وجهه الكثير من التساؤلات وتلك النظرة المحدقة فى الافق البعيد ..وفيها الكثير من الحنين والتمنى وقال لى : هل كان جدى بهذه الدرجة من العلم والثقافة والمستوى الوظيفى؟ هل تعرفين يا امى اننى غير محظوظ لاننى لو كنت محظوظا لشاء لى القدر ان اتعرف على جدى...ثم نظر بتلك النظرة البعيدة وكأنه يتمنى شيئا وقال :اه..كم كنت ساكون سعيدا لو اننى كنت طالبا عنده فى الكلية واتمشى بين ممراتها وارفع راسى شامخا وكاننى اقول للناس ..ان جدى عميد الكلية! حلم وامنية لولد صغير يحب ان يتباهى بجده ...رغم انه لم يستطع ان يخفى دموعا تترقرق فى عينيه ..اه لو اسعفنى الحظ وتعرفت عليه...فقلت له مشجعة اياه بانه سيكون مثله وربما احسن منه رغم شكي بذلك لكنه رد على وقال ساكون باذن الله وادار برأسه واتجه نحو غرفته وكانه يخفى شيئا ...ربما يحاول اخفاء دموعه ...وبعد ان اختفى عن نظرى تركت مافى يدى واتجهت الى غرفتى وانفجرت ببكاء شديد وكاننى للتو سمعت بخبر وفاة والدى ...اجل كم كنت اتمنى ان يرى احفاده ويرعاهم بحبه وحنانه ...وكم حزنت لان الموت خطفه منى ومن احفاده...وكاننى ولاول مرة اعرف ان اولادى حرموا من جدهم والعكس ايضا صحيح..موقف كنت اعرفه وادركه منذ اللحظة التى تزوجت فيها بانه لم يكن لاولادى جدا من طرف امهم ومع ذلك لم اكن مهتمة كثيرا لانه موضوع مسلم به منذ زمن بعيد ولكنه اثار عندى ردود فعل مختلفة بعد ان جاوز ابنى السابعة عشر من عمره....ربما نظرة الحزن فى عينيه....او تلك القيمة المعنوية الكبيرة التى فقدها اولادى وحرموا منها...او ذلك الشعور بالاعتزاز والفخر به والذى افتقدوه ...او ربما هو حنينى انا اليه وانا فى تلك المرحلة من العمر حيث كنت من النوع الذى يحاول ان يتكتم التباهى والتفاخر به ليس لانه غير جدير بذلك بل لاننى لااحب ان تلصق بى صفة المتباهية او المتكبرة او المتفاخرة من قبل بعض طالبات الثانوية..ولو رجع بى الزمن الان لتفاخرت وتباهيت به وكيف لا وهو يستحق اكثر من ذلك ..وربما... وربما ...وربما...لم اعد ادرى...
مواقف كثيرة تحكى وقصص  تسمع وروايات تروى وصفحات تستوعب الكثير والكثير وتضيف فصولا جديدة فى كتاب حياة والدى وكلها تدل على ان نهاية الانسان لاتكون بوفاته بل على العكس ستصبح بداية لاستكشاف ذلك الانسان الغائب المفقود وتظهر الكثير من سلوكياته ومواقفه وتفاعله الحقيقى مع الناس او بالاحرى ما قدمه لحياته الحقيقية الابدية...فيصبح موجودا رغما عنا.
 وكما فى حياتنا بدايات مفرحة ومحزنة فهناك ايضا نهايات سعيدة وحزينة...ولان للنهايات صورة اوضح وأعمق ومعنى أغزر وأدق وأشمل وحكم وعبر اكثر فهما وأدراكا فاننى أرتأيت ان اضع عنوان مقالتى هذه فى النهاية وليس فى البداية حتى يكون اكثر استيعابا لمن يقرأه واشد وقعا على النفس... وهوما أرتأيت ايضا كتابته على هويتى الشخصية(غير الرسمية) .. ويبقى سؤال واحد قبل ان اذكرعنوان المقال وهو: الا يحق لنا الان ان نحتفل ونتذكر تاريخ الوفاة وليس تاريخ الولادة؟؟؟؟ بلى..والله...فالاحرى والاجدر بنا ان نقوم بذلك ..لذا فاننى احتفى بتاريخ ميلاد ابى الحقيقى وهو 18_1_1984 وسيكون عنوان مقالتى ( تاريخ الميلاد:...مؤجل ...لحين الوفاة).