Dr.dabbagh

السبت، يونيو 29، 2013

لجزء الثاني من بحث اسطورة المصطلح العلمي

ولدي أمثلة وفيرة أتركهاالى فرص أخرى.. ولكن تبين مما تقدم أن واضح المصطلح الاجنبي عندما ولد وسجّل ونحت المصطلح كان في حالة ذهنية ونفسية ليست مهيئة تماماً، ومن جميع النواحي والضابطة لشروط وضع المصطلح لكنه لم يتردد كثيراً في وضع المصطلح بل أقدم عليه وستنداً إلى ملابسة من نوع ما تجعل القارئ في صلة رمزية مع المعنى مهما كانت الصلة والملابسة هزيلة أو بعيدة أو حتى منافية للذوق، لكنها موجودة بشكل من الاشكال، فالملابسة في اعتقادي هي العماد الاول والاساس في نشوء اللغة بصورة عامة ولولاها لما تطورت أية لغة ولانتاب نموها العلمي علة البطء والخمود وسمة التردد والانهيار لان الحاجة والفكرة الوليدة منها هي أصل اللغة وليس العكس، وقد وجدنا أن الملابسة يمكن أن تكون بالصورة الآتية:-
1-  في الصوت: وهي بالحقيقة أساس النظرية التي تقول أن محاولة الانسان تقليد أصوات الطبيعة ومخلوقاتها كانت أساس لفظه ونطقه الكلمات الاولى من عمر البسيطة.
2-  في الشك الظاهر للعين المشابه لطعام أو شيء أو حيوان.
3-  في المحصلة والنتيجة النهائية (مادية معنوية كما رأينا في اصطلاح الساد) الذي يسدل ستائر على عدسة العين.
4-  في الوظيفة أي في عمل ذلك الشيء أو المخلوق كما يتصوره العلم آنذاك، وتبقى الكلمة كما هي ما لم يضطر العلماء إلى استبدالها بتغير الحقيقة العلمية بصورة جذرية.
5-  وفي الحركة التي تنجم عن عمل أو واجب ذلك الشيء أو المخلوق.
إن الملابسة والمناسبة المشتركة إذن فتحت أمام النحات الاجنبي الباب على مصراعيه لوضع المصطلحات وهذا هو سر السرعة والوفرة في وضع المصطلح الاجنبي ولكن الملابسة التي اعتمدها الاجنبي ولم يحاربه فيها اللغوي والنحوي المختص في بلده أصبحت أمامنا اليوم عقبة كبرى لأن بعض من يقومون بعملية التعريب ينظرون إلى المصطلح الاجنبي وكأنه كلمة مقدسة متكاملة بليغة دقيقة لا يمكن المساس بها أو نقدها أو تحويرها أو تعديلها عند التعريب. أي أن المصطلح الاجنبي غدا في نظر البعض –اسطورة سحرية- جعلته أسير الترجمة، وأسير الشعور بالنقص أمام الاجنبي وتفكيره واجتهاده، وجعلته مفيداً بضوابط وهمية هزيلة وجعلته ينسى أو يتناسى مكانة وقدرة لغته الأم ووفرة الاختبارات فيها لغزارتها وانها لن تنصرع ببضة كلمات جديدة أو صيغ نادرة.
وهذا يعكس الوضع النفسي للمعرب بأعتباره كل ما هو أجنبي صحيح ومثالي أو ما عبر عنه آخرون "عقدة الأجنبي" فأسطورة المصطلح الاجنبي على ما وَجَد انه فيه من العشوائية او عجلة او اخطاء هي المشكلة الاولى امام تعريب المصطلح العلمي. وبعد كل هذا، واعود الآن إلى محور حديثنا لأقول أن مشاكل المصطلح العلمي هي:-
1-  الشعور بالعجز والاحباط ونظرة التاليه للمصطلح التقني الاجنبي التي تجعل منه اسطورة سحرية من المحرم المساس بها أو تغيير حرفيتها وكأنها ليست من صنع البشر أو أنها من صنع بشر متميز منزه عن الخطأ والسهو أو المغالطة وحتى الاسفاف.
2-  وهذا بدوره يؤدي إلى الانجماد والشذر تجاه المصطلح التقني الجديد، صحيح أن العلم ينمو بسرعة هائلة وسرعته تفوق سرعة نمو اللغة وشطحات الخيال لذلك يشعر البعض باننا عاجزين عن الاستيعاب أو اللحاق بالعلم ومجاراته. لكن نظرة واحدة إلى الوراء تؤكد لنا أن اللغة تنمو بسرعة أيضاً إذا ما تحررنا من الشعور بالاحباط وإذا علمنا أن ما يزيد في الطبعة الاخيرة عام 1974 من قاموس (دورلاند الطبي) كان 14 الف كلمة طبية جديدة عن الطبعة السابقة أدركنا كيف أن سرعة العلم لم تبهر أو تشل عمل الناحت اللغوي الغربي، فهل سنبقى متلكئين وندخل في حلقات مفرغة من النقاش وأمامنا العمل الكثير؟.
3-  ترددت في بعض الندوات توصية تقول عن "مقاربة النهج العالمي في وضع المصطلح" وانني اعتذر واعترف بانني لم اسمع لحد الآن بوجود منهج عالمي نتعارف عليه في وضع المصطلح، فلكل أمة وشعب قواعده اللغوية ولا يوجد منهج موحد عالمي بالمعنى الدقيق لكن الظاهر أن العائلة اللغوية (الآرية- الاوربية) الاصل وسعة انتشار الفكر الاغريقي ثم استمراريته في اللغة اللاتينية جعله يكتسح العالم الغربي فيبدو وكأنه منهج عالمي. وما أرمي اليه هو أن لا نعتبر وجود منهج عالمي سبباً أو مشكلة أمام تعريب لغة العلم والتقنية الحديثة إذ لا توجد لقاعدة صارمة في اسلوب وضع المصطلح.
4-  التقوقع في دائرة الترجمة الحرفية بدلاً من الأخذ بالمعنى والمدلول العلمي وبهذه الطريقة سنصل إلى حالة ذكرها باحثون آخرون وهي:-
‌أ-     الانقياد وراء المصطلح الاجنبي بصورة شبه عمياء خالية من التمحيص والاصالة أو اللمسة العربية التراثية والانقياد اللغوي يؤدي بالنتيجة إلى انقياد غير مباشر سياسياً وفكرياً وحضارياً.
‌ب-جعل الترجمة والمترجمين ولغتهم طبقة لغوية خاصة منعزلة عن المجتمع اللغوي العام الذي يعكس روحية الحراك الاجتماعي وتطوره الحيوي المنسجم والمتمازج مع كافة قطاعاته.
‌ج-  زيادة الثقة بيننا وبين التطور التقني بحيث نضفي على أنفسنا سمة التخلف المصطنع عندما تسيطر علنيا عقدة الاجنبي فينعكس ذلك على سلوكنا وشعورنا بالغربة والضآلة وهذا هو مرضنا وداؤنا.
5-  عدم ايماننا بالمقدرة على المرونة والتصرف وأريد أن اقول بصراحة أن فئة المعربين قد تشعر بالانكماش والذنب أمام صلابة وصرامة وحدية بعض السادة اللغوين الافاضل بشأن قواعد اللغة العربية. وأرجو أن لا يفسر كلامي على غير وجهه الذي أعنيه، إذ أنني أقدر وأحترم الاستاذ اللغوي الحريص الأمين على لغتنا العربية وأصولها وقواعدها، لكني أريد من المعرب أن لا يفقد شخصيته واجتهاده وشجاعته أمام الخبير اللغوي المتزمت. إنها مسألة علاقة إنسانية – تربوية وليست علمية صرفة، إنها كعلاقة الاستاذ بتلميذه، هو يعلم طالبه ويوجهه نحو الاصالة والتراث والتقاليد والسلوك المقبول. كما يجب على المبتدئ أن يتطور ويبرز ويبدع وهذه هي حالة التوازن المنتج. أما المتزمت والأمر القسري (المعنوي) والهجوم والمنع والرفض بجمل "هذا خطأ" أو "لا يجوز" أو .... أو لم يجْرِ ذلك على لسان العرب من قبل، دون اعتبار عوامل نشوء اللغة وتطورها وانسياب المعاني بالتماس والملابسات والاخذ والعطاء وضروريات السرعة المعاصرة... كل ذلك يؤدي إلى انكماش التلميذ- أو المعرب إلى حالة من التوجس والخوف والخجل من سلطة اللغوي الجبارة. وهنا انتقل مباشرة إلى وسائل تبسيط وتسريع ودفع عجلة التعريب التقني والعلمي فأقول إنها يمكن أن تتحقق بالطرق التالية:-
1.    التعاون بين اللغوي والمعرب بحيث يجتهد اللغوي ويبدع ويبحث عن مفاتيح وحلول لغوية تفتح المغاليق وتمهد المعضلات بدل الجلوس فوق المنصة العالية للمراقبة والنقد وبذلك تدب حركة متناسقة بين عملية التعريب وقواعد وضوابط اللغة. وهذه هي قمة التعاون المنتج المعطاء وما ذكرته آنفاً عن موقف اللغوي المتزمت من المعرب يضع المعرب في (شطيرة) أو (ساندوش) أو بين مطرقة النفوذ الاجنبي وسندانة التزمت اللغوي، وهي حالة نفسية مرهصة يجب أن لا نغفل خطورتها. فالأصل في العمل والانتاج هو ما يسبقه من حالة نفسية صحية وأُهبة ذهنية لكن الذي يجد نفسه بين المطرقة والسندان لا يحضى بتلك الاهبة والنشاط، وعلينا أن نحرص على تحريك اللغوي ليبدع في مرونته لا أن يقسو بعصا خبرته ويردد كلمات زاجرة من (لا ... وكلا .... ولا يجوز) وهو اسلوب تربوي فاشل في كل مراحل التدريس. فاذا ما وفرنا الجو النفسي للمعرب وحررناه من المطرقة والسندان، واقتنع بأن @@@@ متوفرة (دون جهل أو فوضى) وأن اللغة العربية يمكن أن تطاوعه إذا فهمها وطاوعها واستعان بخبراء اللغة المتعاطفين المتسامحين (دون تسيب او تساهل لا مسؤول)... عندها يمكن أن نضع القواعد والمناهج والضوابط العامة للتعريب التقني- العلمي مؤمنين بشعار الأخذ والعطاء والتقبل المرن.
2.    الأخذ بالمعنى الاقرب للمصطلح في حقله الخاص به بدل الترجمة الحرفية:-
‌أ-     فاصطلاح Occult blood الذي دل على (الدم الخفي) في البراز جاء عن اللاتينية Occultum ويعني يخفي ويغطي، كما يعني (السر الخفي، والصوفي، والسحري، والميتافيزيقي) وعلوم الخفايا Occult Sciences
هي التي تدور حول علم السحر والجن والشياطين لذلك دعيت أيضاً
بالـ
Occultism.
‌ب-وكلمة Vector تعني في الطب البشري والبيطري كل حشرة او حيوان ينقل الجراثيم والطفيليات لكنها في علم الرياضيات تعني الاتجاهات والموجهات، وفي الهندسة الميكانيكية تعني الكمية الموجهة ذات القوة،وفي الفيزياء تعني السعة الموجهة Vector magnitude، وفي البحرية والطيران تعني دقة أو موجة المركبة.
‌ج-  وكلمة Ortho السابقة تعني باليونانية Orthos المنتصب والسوي والمستقيم (مادبالوادبيا) وفي الطب نقول (بهر الرقود Orthopuoea) لأن المريض يضطر للرقاد وهو منتصب أو متكي على الاريكة لضيق تنفسه. وفي الطب نقول كذلك Orthopedics للدلالة على علم جراحة العظام لأنه العلم الذي يختص بتقويم العظام وتسويتها إلى الوضع الطبيعي.
‌د-    وكلمة dull تعني في علم النفس (الغبي)، وفي الفيزياء تعني (المعتم وباهت الضوء والبريق) وفي الميكانيك تعني (الكليل) كالسكين غير الحادة القاطعة، وفي الانواء الجوية تعني (غائم) وفي لغة الادب تعني (التخفيف والملل)، مثلما نقول (الاسى يخفف عنه الزمن) Sorrow is dulled by time و (السعادة يكمدها القلق) Pleasure is dulled by anxiety.
‌ه- وكلمة Scatter في علم الاحصاء هي نسبة واسلوب (الانتشار) في منحتى أو مخطط لصفة أو عامل معينيين لكنها في الفيزياء تعني (تشتت) الضوء واستطارته، وفي علم النفس تعني الغفلة وتشتت الفكر brainscatter، وفي الأدب والاجتماع تعني (الانتشار والتبعثر).
واكتفي بهدذه الامثلة للبرهنة على أن الكلمة الاجنبية الواحدة قد تعني بضعة مدلولات في حقول مختلفة ويجب أن لا نتردد في أن نضع لها نحن ما يلائمها من مصطلح حتى في الحقل الواحد، مثل إصطلاح بقع القطن التي تستعمل في طب العيون كما ذكرت، تستعمل في تصوير الاشعة للرئة المصابة بالتدرن الرئوي.
3.    الأخذ بأسماء الاعلام على علاتها عد أسماء الاعلام المطاوعة. فالاعلام امتياز للشخص المكتشف والمبدع أو المكان أو الحدث، فمدرسة فرويد ونظرية روسو وقانون ويبر تبقى كما هي. وقاعدة أرخميدس من أقدم هذه الأمثلة.
4.    استعمال النسبة في الكلمات المركبة لحل مشكلة الاصطلاحات الاجنبية المزدوجة والثلاثية والرباعية فعربيتنا تنفر من التركيب ولكن النسبة هي الحل الوسيط وهي أفضل من النحت المبهم وبدعة الدمج الركيك المنافي للسلالة فيمكننا أن نقول (نفسجي) مقابلة لـPsychosomatic، ونفسي عضوي لـPsychoorganic (وسمع- بصري) audio- visual بدلاً من (سمبصري) التي هي أشبه برمز مضحك ... وهكذا. ونحن نعرف أن من مشاكل العربية هي الكلمات المركبة لكنها ليست مستحيلة الحل.
5.    اذا كانت اللغة تتطور، واذا كنا نسافر بالطائرة ونستعمل رموز (مورس) وأرقام الحاسبة الالكترونية للضرورية الحضارية ومواكبة التقدم التقني فإنني أرى أن استخدام اصطلاحات المختصرات أمراً لا محيد عنه في مثل هذه الحالات، فنقول مثل الغربيين LSD, RBC, PKU, ATP, SOS وعشرات غيرها معروفة لدى الجميع ويمكن كتابتها بالحروف العربية بالطبع كما يمكن شرحها ومدلولها وأصلها الكامل في المعجم والقاموس، فالمختصر RNA هي (الحامض الخلوي الرايبوزي Ribo- nuclic acid) لكننا لو اختصرناها إلى (ح خ ر) لابتعدنا عن الرمز الحالي وهو RNA الذي يفهمه كل مختص في جميع أنحاء العالم. ولا أعتقد أن ابقاء المختصر الاجنبي كما هو يحدث خللاً في العربية العلمية. أما تحوير اللفظ عندما نترجمه حرفياً فهو غير مقبول إذ وجدت في مقالات مختلفة أن الباحث العربي يستعمل الفاظ أشعة (جاما) ومقياس (جالون) بالجيم بينما هي الاصل gallon و gamma، أي بالكاف المخففة.
6.    إتباع منهج قياسي ومستقر في السوابق واللواحق الكثيرة الاستعمال في الاجنبية، ونحن ندرك صعوبة الصيغ العربية في التركيب والتصغير والنسبة دون شك، ومع ذلك فقد وجدت في أحد القواميس العربية أن اصطلاح mast cell وضع مقابله (خلية دقلية) – أي نحيلة بينما هي خلية بدينة لأن المعرب ترجم كلمة (mast) إلى معنى (سارية السفينة). و (دَقَلَ) في العربية تعني الخشبة الطويلة التي تعمل كالسارية. ودقل تعني أيضاً النحول والضآلة، وهذا الاهمال في تحوير المعاني غير مقبوزل لأنه تشويه لتاريخ ولادة الكلمة ومدلولها العلمي.
7.    اتباع القياس الواحد (كلما أمكن) عند استخدام صيغة معينة للدلالة على مدلول المصطلح. فالفعل والاسم والمصدر ليست كالنعت والصفة او صيغة الكثرة والمبالغة وصيغة الاستعداد والاهبة والفاعل والمفعول به.... كلها يمكن أن تقع في اطار عام، وهنا يدخل المجاز في اللفظ عندما نرى أن اللفط مقارب للمعنى العام.
8.    واذا ما تجنبت بقية التفاصيل الاخرى التي جرى التداول فيها وعنها في كثير من ندوات سابقة فإنني أرى ان ما جاء من توصيات عامة في (ندوة توحيد المنهجيات في تعريب المصطلح العملي) والتي عقدت في الرباط في شباط عام 1981 يمكن اعتبارها المؤشرات العامة الواضحة المعالم لوضع المصطلح العلمي وتعتبر توصياتها قومية شاملة لان من اشترك فيها من اساتذة كانوا يمثلون معظم دول جامعة الدول العربية إضافة إلى ممثلي المنظمات والامانات والمجامع العربية المشتركة.
9.    وأخيراً فإنني أضيف إلى هذه التوصيات شروطاً أولية بديهية وهي أن يكون المعرب عالماً في حقله وأن يكون ملحاً بلغته العربية بمستوى جيد وأن يستعين بالاساتذة اللغوين ويجعل من لغته درساً مستمراً لا يمكن أن يحيط به في فترة معينة ثم يتوقف.
10.           اما وجود مصرف او بنك للمصطلحات، وعقد ندوات عربية للتنسيق للتوصل إلى مصطلح عربي واحد يلتقي فيه خبراء كل قطر حسب إجتهاداتهم فهو طموح آخر لا شك أنه سيتحقق يوماً ما. لكنني لابد أن أمر بسرعة على اسلوبين في جمع وخزن بنك المصطلحات:-
الأول:- هو إتباع التسلسل الأبجدي القاموسي من حرف الألف إلى الياء (A) إلى (Z) حتى يتكون لدينا في النهاية معجم في ذلك الحقل من العلم.
والثاني:- هو التعرض إلى المصطلح (المشكلة) والمصطلح التقني (الجديد) والصعب لوضع مرادف له بغض النظر عن تسلسلة الابجدي. لكن بعض المجامع العلمية بإتباعها هذا الاسلوب نراها تختار المصطلحات السهلة والقديمة كما نلاحظ تكراراً فيها في جلسات متباعدة وهذا من شأنه أن يؤخر عملية التعريب. إن لكل أسلوب ايجابياته وسلبياته لذلك لا أتحيز لواحد منها لكنني لا أميل أيضا إلى رفض وحذف أحدهما فنخسر من الفوائد أكثر مما نربح من الخسائر ......


بحث حول (( اسطورة المصطلح العلمي )) الجزء الاول

أسطورة المصطلح العلمي ([1])
قد يبدو عنوان هذا الحديث بعيداً عن بعض الشيء عن محور حديثنا في المصطلح التقني وما يدور حوله من عرض للمشاكل والوسائل، لكني سأبين أني قصدت فعلاً ادراج كلمة الاسطورة كمشكلة أصيلة وعرقلة خطيرة أمام وضع المصطلح العلمي التقني العربي، فالقناعة والايمان بامكان توليت ونحت وتحديد المصطلح العلمي العربي المقابل للمصطلح الاجنبي هي المفتاح الاول في دفع وتسريع عملية التعريب. وإذا ما تجاوزنا الحاجز الاول أصبحت الحواجز الاخرى ثانوية والوسائل الكفيلة بالتغلب عليها هينة ميسورة مهما كانت نوعية العقبات متعددة أمامها. ولو تأملنا قليلاً في كيفية وضع وبقاء المصطلح العلمي الاجنبي لاكتشفنا ما يدهش ويدعو للإستغراب. وقد أغرتني هواية جمع بعض المصطلحات الغربية التي صادفتها من خلال العمل الجامعي والمجمعي والتي كانت مصدر جهد وتحد للقائمين بعملية التعريب فوجدت منها الكثير الذي يجعلنا أشد ثقة بما نقوم به وما سنقدم عليه وان نشعر بالارتياح ونتنفس الصعداء لادراكنا ان نسبة لا يستهان منها من المصطلحات الاجنبية هي بالاصل غير دقيقة ولا تنطبق على الحقيقة العلمية الحالية وان ظروف توليدها واستعمالها وسريانها لم تكن بالظروف التي تحسد الاجنبي عليها أو نجله فوق قدره بسببها. والامثلة الاتية توضح ما أقصد وأعتذر ان كانت غالبيتها مستمدة من العلوم الطبية –لأنني طبيب قبل كل شيء- لكن الطب المعاصر لا يستطيع العمل بدون التقنية أو الابتعاد عنها والمهم انني في حديثي هذا عن مصطلحات طبية فإنني لا أبتعد عن محور التقنية بالتأكيد.
1-  هنالك اصطلاح جديد ظهر في العلوم الطبية منذ أوائل الخمسينات يدعى بالـ Microchips أو الـ Microprocessor للدلالة على (المعالج الدقيق) الذي يستعمل في المستشفيات الحديثة والمتقدمة ويعتبر ثورة وانعطافة تقنية- الكترونية في عالم الطب لأنه آلة صغيرة تعمل ببرمجة آلية –Small system computer- والـChip هو بالحقيقة (رقيقة) أو قرص دقيق مصنوع من السليكون لذلك سمي أيضاً بالـSilicon chip ويعمل كأساس في تركيب ووظيفة الاجهزة الصغيرة في التشخيص والعلاج مثلما كانت ولا تزال (التقبلات) أو الترانسيستور أساس كثير من الاجهزة المختلفة وأولها المذياع. المهم أن الـMicrochip يستخدمه الاطباء كمصطلح للدلالة على الجهاز الدقيق الذي يعمل بالرقيقات السليكونية فأصبح الجزء الصغير من الآلة يدل على الآلة لمجموعها.
2-  وفي علم المناعة وتركيب نخاع العظم توجد خلايا مهمة جداً تدعى (بخلايا ماست) Mast cells والخلية هي كرية بيضاء بدينة الشكل وتحتوي على كمية كبيرة من (حبيبات مغذية Basophil granules) وقد وصفها العالم (ايرلخ) منذ عام 1879 بالالمانية بالصطلاح Mastzellen بسبب شلكها البدين. إذ وجد لها ملابسة وشبهاً بالطعام وفي الاخص الطعام الوفير للخنزير. وهكذا اشتق لها اسم mast من الاصل اللغوي القوطي mast الذي يعني الخلية المرباة بالطعام الجيد أو المخلوق المربى بصورة سخية وفي الاخص الخنزير. ويمتد أصل الكلمة إلى السنسكريتية medas التي تعني سمين. والمهم أن العالم الالماني قبل أكثر من قرن وضع المصطلح استناداً إلى شكل الخلية أو الكرية فقط وليس على وظيفتها التي لم تعرف إلا قبل بضعة عقود من السنين، وفي المعجم الطبي الموحد سميت بالخلية البدينة كذلك.
3-  وهنالك مجموعة من الاعراض المرضية اطلق عليها الباحثون الاطباء الغربيون اصطلاحات دارجة عادية لانها تشبه بعض الظواهر الحياتية المعروفة والتي يفهمها حتى الانسان العادي في منطقته دون التباس لكنها تثير التساؤل والدهشة والاستغراب، فمثلاً:-
‌أ-     في مرض قصور القلب المزمن تطرأ تغيرات على الكبد بحيث أننا لو أخذنا مقطعاً منه لظهر بشكل جوزة الطيب (أو البويا) التي تستعمل كأحد توابل الطعام Nutmeg فسماه بـNutmeg Liver ولم يجد المعرب العربي إلا وضع اصطلاح (كبد كجوز الطيب) للدلالة على هذا المصطلح.
‌ب-وفي مرض (انغماد الامعاء) عند الأطفال عادة يتغوط الطفل برازاً مخاطياً كالهلام وتختلط معه بقع من الدم النقي الاحمر مثلما ينتثر الكشمش أو الزبيب على الهلام. وهذا النوع من البراز اطلق عليه العالم الاجنبي اصطلاح
Currant jelly stool- أي ما يشبه حلويات الهلام أو (الجيلي) الابيض المزينة بالزبيب.
‌ج-  وينتاب مريض حتى (التيفود) زحير يحدث في الاسبوع الثاني من المرض ويكون منظر البراز فيه بشكل سائل فيه قطع صلبة صغيرة خضراء من مكوناته فأطلق عليه العالم الغربي اصطلاح Pea soup stool –أي براز حساء البازلاء-.
‌د-    وفي مرض الهيضة (الكوليرا) يكون البراز سائلاً أيضاً مثل ماء الرز
المنقوع ولم يتردد العالم الاجنبي في تسمية ذلك البراز بـ(زحار ماء الرز)
Rice water diarrhea وهكذا نلاحظ أن واضعي تلك المصطلحات كان يشغلهم مظهر البراز فإذا بهم يشبهونه بأنواع الطعام والحلويات والتوابل دون تردد وحذر من مجاجة للذوق على الأقل.
4-  وفي بعض امراض القلب وصماماته يتخذ القلب شكل حذاء الجندي، فسماه طبيب الاشعة بالقلب ذي شكل الحذاء Boot- shaped heart.
5-  وفي مرض (الكيس الغذري Hydatid ryst) الذي قد يصيب الرئة ويتعرض للانفجار الموضعي يبدو سطح السائل في داخله أو حافته مثل البحيرة المغطاة بمجموعة من زنابق الماء الطافية في تصوير الاشعة فلم يتردد الاجنبي في استعمال اصطلاح (حافة الزنابق Hilly- water edge) للدلالة على مظهره الخارجي.
6-  وفي مرض الكساح ينخسف عظم القص والاضلاع من الامام بحيث يبدو
كحفرة عميقة نجده عند الاسكافيين القدامى الذين كانوا يسندون الحذاء على
صدرهم أثناء العمل فأطلق على هذا النوع من التشوه الكساحي إصطلاح
(صدور الاسكافي
Shoe-makers chest).
7-  وعندما وضع العالم الغربي أول اصطلاحه لمرض الجدري والحماق في القرن الخامس عشر الميلادي نسي أن الرازي كان قد وصف وسمى تلك الامراض والحصبة منذ القرن التاسع. فأطلق عليها أسم Small pox وكلمة (Pox) Pocks هي البثرة البارزة ذات الحافة. ولما كان مرض الزهري منتشراً في أوربا آنذاك وله بثور كبيرة الحجم، فإن بثور الجدري كانت صغيرة Petit بالمقارنة بها لذلك سماها Small pox كنقيض لـ big أو grand. ولم يكن يعرف سبب المعرض. أم امرض الجديرة (أو الحماق) Chickenpox فقد إتخذه اصطلاحاً باعتباره مرضاً أخف
وطأة من الجدري فوجد (هيبيردين) منذ عام 1767م أن أنسب ما يستعمله
من مدلول لخفيف الوطأة هو الـ
Chickenpox. لأننا نقول باللغة الدارجة Chicken- hearted بمعنى الشخص (خفيف الظل والقلب) بينما دعاه (فولر) عام 1730 بـ(مرض البلورات Crystals) ثم انقرض ذاك الاصطلاح. وهكذا نجد أن إصطلاحات الجدري والحماق (أو الجدري الخفيف) هي مجرد ملابسات في الشكل أو اللفظ أو التأثير.
8-  وعقار (البلدونا) يستخلص من نبات باذنجاني الفصيلة يدعى بـ(نبات ست الحسن) Belladona، وقد أطلقه العالم الغربي استناداً إلى مفعوله الدوائي لأنه يوسع الحدقتين ويورد الخدين. فالفتاة أو الانثى الشاحبة إذا تناولته بدت حسناء جذابة، وهكذا نحت اصطلاح (عقار ست الحسن) لأن جملة bella domina باللاتينية تعني (السيدة الجميلة)، فأين التسمية الجمالية من مفعول العقار السُّمي هذا؟ لكن الناحت الغربي إستند إلى مفعوله على الجسم أو بالاحرى على الوجه فقط بينما هو بالحقيقة يؤثر في الجهاز العصبي المستقل جميعه.
9-  وقد اكتشف العالم الغربي أن النزيف البسيط في الامعاء يمكن تشخيصه بالفحوصات المختبرية للبراز رغم عدم رؤية الدم بالعين المجردة، فهو نزيف مستورد أو (خفي) لذا دعاه الناحت الغربي بـ Occult-blood و (Occultum) باللاتينية تعني الاخفاء والحجب لكنها تعني اشياء كثيرة اخرى كما سنرى....
10-  ومرض Hypochondriasis تعني توهم المرض والوسوسة حول وظائف أجهزة الجسم ويقابل ذلك بالعربية اصطلاح (المُراق). وكلمة Hypochondrium هي (المَرَق أو المَرَاق) وتدل على الجزء العلوي من احشاء البطن التي تقع اسفل الاضلاع وعظم القص. والمرض في اليونانية واللاتينية يعني (الالم والمرض في ذلك الموضع من الجسم)، كما يعني أيضاً (هبوط المعنويات). لكن الطبيب النفسي المعاصر أطلقه على مرض (المراق) والوسوسة. فأين الاصل القديم من الاصطلاح الحديث ... عدا صلة واحدة هي أن المصاب بالوسوسة المراقية يحس بالكآبة والانقباض في أعلى بطنه أحياناً ويشعر بهبوط معنوياته حتى لو كان قلق واهتمام المريض يدور حول قدمه أو رأسه.
11-  وفي علوم الحياة عثرنا أثناء عملنا في مصطلحات علوم الحياة على رتبه من الحشرات تسمى بـ Ascospermophora وهي ترادف إصطلاح Milli-poed أي (ذوات الالف قدم). والحقيقة العلمية الآن أنه لا وجود لألف قدم أبداً بل ربما 44 أو اقل أو اكثر وجميعها أرجل مزدوجة متناظرة ومع ذلك فإن واضع المصطلح أدخله في الادب التقني العلمي وأصبح مقبولاً لدينا لمجرد أن العالم الغربي توهم ألف قدم لتلك الحشرة، فهل نعربها بـ(الفية الارجل)؟ أم برتبة (مزدوجة الاقدام المتعددة) وهو الأصح والأدق؟....
12-  وكلمة Catharsis تدل باليونانية (Catharsis) تدل باليونانية (Katharsis) على النظافة والطهارة وقد استعملها العالم الغربي للدلالة على التطهير الروحي أو التنفيس كما هي الحال في حقل الطب النفساني لكنها تستعمل أيضاً للدلالة على استخدام المسهلات لتطهير وتنظيف الامعاء من الادران والاوساخ.
13-  ومرض الناعور- أي الهيموفيليا Heamophilia يعني (حب الدماء) كما يستدل من الكلمتين الاغريقيتين philia بمعنى (رغبة في شيء أو صداقة وحب) و heame بمعنى (دم). لكنه مرض لا يرعب صاحبه في الدماء بل انه يعاني من سرعة حدوث النزف الآني أو لانفه جرح وعدم تخثيره بسرعة مثل بقية الناس. ومع ذلك فإن ملابسة (الميل إلى النزف) مهدت للعالم الغربي اصطلاح heamophilia بينما المصطلح العربي (الناعور) ادق من ذلك بكثير.
14-  وتظهر على شبكية العين بقع تشبه القطن المندوق فسماها العالم الغربي
Cotton – wool spots ولحد الآن يختلف الاطباء في كيفية حدوثها فهي ذات علاقة بارتفاع ضغط الدم وبداء السكر وهي بقع موضعية منتفخة من اغلفة الاعصاب البصرية للعين بيضاء اللون ذات حافة مرّيشة مثل شعيرات القطن. ولم يتردد العالم الغربي في تسميتها ببقع القطن المندوق بينما هي ظاهرة لانتفاخ ورشخ من اعصاب العين.
15-  واصطلاح (السادّ) أو (السدّ) Cataract مشتقة بالاصل من اليونانية Kattaractus التي تعني (شلال) أو (الماء الساقط) وفي الاغريقية الاولى (كما في اللاتينية) تعني الحاجز أو الساتر الذي يسقط فجأة ليوصد ويغطي الباب والشباك أو المدخل إلى مكان ما. ومنذ عام 1550م تداول العلماء في فرنسا ثم اوربا تلك الكلمة. وبعد ذلك عرفوا أن المرض هو ابيضاض في عدسة العين. وهكذا نجد أن اسباب المرض وطبيعته يختلف عن أصل التسمية وإن كانت النتيجة هي صحيحة- أي اسدال ستارة على فتحة العين وتعتيم البصر إلى درجة العمى.
16-  وقرحة الإثني عشر المزمنة التي تؤدي إلى تضيق في بوابة المعدة وانتفاضها بالطعام فتظهر في التصوير الشعاعي بشكل ابريق الشاي Teapot deformity.
17-  واصطلاح (متلازمة الاغراق) Dumping syndrome في الطب يستخدم لحالة تنتاب المريض الذي اجريب له عملية اقتطاع جزء من معدته وخياطتها مع القسم الاعلى من الامعاء فيحدث تفريغ سريع للطعام مثلما تفرغ السيارة القلابة مجموعة المواد التي تحملها من تراب أو ركام أو أوساخ لأن اصطلاح dumping في
الهندسة المدنية وعلوم الحياة تعني بالحقيقة (الاغراق) و (موضع الانقاض).
و
dumping wagon هي عربة نقل الحفائر والاتربة. أما في علم الاقتصاد والتجارة الدولية فهي (إغراق) السوق بالبضاعة والسلع للتخلص من فائضها وللمنافسة، فأي من واضعي المرادفات لنفس الكلمة هو الاقرب إلى الصواب، إن الملابسة فقط جمعتهم سوية.
18-  واستعمل فرويد اصطلاح (الطاقة الفكرية besetzung) للدلالة على القوة العقلية فلما ترجمها الانكليز إلى كلمة cathexis لم ترق لفرويد في حينها لأنها لم تعبر عن قصده بالضبط ومع ذلك درجت كاصطلاح يدل على الطاقة المشحونة أي أن العالم النفسي الانكليزي لم يستطع وضع مصطلح دقيق لكلمة ألمانية رغم أن الانكليزية والالمانية متقاربتين في الاصل والمنشأ.



([1] ) بحث القي في ندوة تعريب التعليم التقني والجامعي، تونس، 27 نيسان 1982.