Dr.dabbagh

الثلاثاء، مارس 29، 2016

ملحمة حصار الموصل - الجزء الثالث


الحرب النفسية في حصار الموصل:
"الحرب النفسية" اليوم تلمع في ذهن القارئ كوسائل الدعاية والاعلام والتقنية الحديثة من وسائل التوصيل، كالإذاعات والصحف والتلفاز والنشرات الملقاة من الطائرات ومكبرات الصوت. فكيف نتكلم عن حرب نفسية حدثت قبل (250) عاماً حيث لم تكن تتوفر كل هذه الوسائل؟ ومع ذلك، فقد وجدت في ملحمة حصار الموصل جوانب لحرب نفسية حقيقية اعتمدت على المعنويات وعلى وسائل بسيطة لكنها مؤثرة في تسيير دقة المعركة وحسم النصر للعراقيين.
وكانت ملحمة حصار الموصل موضع حديث وذكر وتعليق الكثير من الكتب والتقارير والقصائد أثناء وبعد المعركة، وفي كل دراسة تناولت الحكم العثماني في العراق أو العلاقات العثمانية-الإيرانية (43). وقد وجدت أن أوضح وأوجز استعراض مسلسل للمعركة هو التقرير الرسمي الذي بعثه محافظ الموصل (والي حلب) حسين باشا القازوقجي مساعد والي الموصل الوزير الحاج حسين باشا الجليلي إلى السلطان محمد الثاني في استانبول باللغة التركية بعد هزيمة نادرشاه ورجوعه على أعقابه مدحوراً بعد حصار دام (42) يوماً. وكان والي حلب قد قدم إلى الموصل بصحبة الفين (أو أقل) من الجند لمساعدة الموصل. وقد خط الرسالة بالتركية (بارعي أفندي) وحملها إلى الباب العالي ابن حسين باشا الجليلي محمد أمين بك. وقد نشرت الرسالة في (سالنامه ولاية الموصل) سنتي 1308ه و 1310ه، وترجم التقرير إلى العربية المرحوم دكتور داؤد الجلبي (44).
وأورد أدناه ملخصاً للتقرير لاعطاء القارئ الكريم الصورة الرسمية لمعركة حصار الموصل قبل التطرق إلى ما دار خلالها من حرب نفسية:
"يخاطب محافظ الموصل السلطان العثماني بالتحيات التقليدية الرسمية (45)، ثم يذكر له أن نادرشاه بعد أن اكتسح قلاع ليلان وكركوك وأربيل وتوهم أن الموصل ستكون لقمة سائغة أيضاً. وأرسل الشاه أربعة أشخاص من بينهم اثنان من شخصيات كركوك ومعهم رسالة موجهة إلى مفتي الموصل-وليست للوالي-، مما استوجب اعتراض الوالي على هذا الأسلوب في المخاطبات. وتضمنت الرسالة انذارا وتهديدا من الشاه بأن يسعى الوالي وأتباعه إلى تسليم القلعة وترغيب الأهالي في استقباله مباشرة. فأعد الوالي والمحافظ الرد المتضمن إلى الاهالي والحكام سيدافعون عن ديارهم ومستعدون للحرب. وعاد السفراء الأربعة ليرجع سفير أخر أرسله الشاه ليخاطب الوالي برسالتين هذه المرة ويعده بأن الشاه هو (شاه المسلمين) وذو مراحم كثيرة (شاهنشاه يندر مثيله، تعرفه بلاد الهند والترك وسائر الممالك)، وأنه كريم يشفق على الأنام وقد جاء لينشر المودة والرأفة، ويطلب من أهالي الموصل الاستقبال و (التذلل) والاستعطاف أمامه وإلا كانت النتيجة شراً. فطردوا ذلك الرسول قائلين له: (إذا جاء سفير منكم بعد هذا فأننا سنقطع رأسه عوضا عن اعطاء الجواب..)، وكانت أول معركة أن عبرت قوة من (700) محارب نهر دجلة لتصدي لطلائع الغازين، لكن جمهر كبيرة من الفرس توالت عليهم فرجعت القوة منهزمة فقتل منهم وأسر أثناء انسحابهم. بعدها عسكر نادرشاه بـ (300) فارس وخيم في موقع (يارمجة) مقابل الموصل من الساحل الأيسر جهة الجنوب الشرقي قرب جامع النبي يونس. وطاف الشاه حول المواقع وبنى الأبراج والمتاريس وعين مواقع المدافع والهاونات في أثني عشر محلاً. وانتقل بقوة أخرى إلى غربي الموصل. وبدأ القصف الشديد من جميع الأطراف. وزلزلت الأرض واختلطت النار بالدخان وبالاتربة والرمال المتراكمة (وتحول النهار المضيء إلى ليل مظلم). ودام الحال أيام متوالية تبعها بخمسة أيام أخرى من قصف البج الكبير (باشطابية) و (باب سنجار) فتهدمت مواقع كثيرة لكن الوالي وأبنائه وأقرباؤه كانوا يقضين ساهرين يوزعون الأعمال ويشجعون ويرمون الثغرات ويبنون البروج من جديد ليل نهار. وحول الشاه مجرى دجلة لقطع المياه عن البلدة لكن الآبيار المهيئة سابقاً والكثيرة في البيوت عوضت عنها رغم حصول ضيق وحيرة من جراء ذلك. لكن الصبر والحماس والايمان جعل الجميع يصدمون. وكانت مجالس الشورى تعقد يومياً لدراسة سير المعركة، ودوريات الوالي والقادة على جميع المواقع والأبراج مستمر ليلاً وكانت قلوب الأعداء تهلع عند سماعهم نداء (الله...الله...) من قبل الموصليين اضافة إلى اصوات الأذان المحمدي في القلل. وكانت آخر محاولة للفرس هي زرع الغام تحت السور (البدن) لهدمها والنفوذ منها كما جهزوا نحو الف سلم لتسلق عليها لكنها السهر واليقضة وإعداد الزيت المغلي لسكبه على المتسلقين ورميهم بالحجارة افزعتهم وسحقهم. أما لطف وعناية الله فقد جعلت لغمين ينفجران خلاف الخطة فأحدها انفجر باتجاه معاكس ليقتل منهم الالاف، والثاني انفجر تحت السور غير السور الحقيقي للبلدة. ولم ينفجر اللغمان الآخران. وهكذا أصاب العدو اليأس والخيبة وتعطل مكره وكيده (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).
ثم طاردت عساكر الموصل فلول الفرس المضطربة خارج السور بالقنابل والسيوف والخناجر والرماح داعين مهللين  (الله...الله...). وتكومت جثث العدو الغاشم وسالت الدماء (وأعادت ذكرى بطولات سابقة، فأنهار الداء المتلاطمة الفائضة من السيوف الإسلامية حكت حادثة الطوفان واشبهت سيل رستم ونريمان)، فلم ير الفرس واقعة كهذه تشبه يوم الحشر. وكانت قذائف عساكر الموصل دقيقة تصيب أهدافها بينما تطيش قذائف العدو. وكان الوالي والمحافظ والاتباع مع المقاتلين ووراءهم حاضرين دائماً مشجعين مشاركين قائلين: (هذه فرحة احراز الشهادة وكسب السعادة في العقبى). وكانوا يكرمون الجرحى والغرقى من الأعداء، واضمحلت عساكر (القزلباشي) فاضطروا إلى إلقاء أنفسهم في الخنادق حيث هلك أكثرهم وولى البقية الأدبار باكين لحالهم كزمرة خنازير. وعندما أرادت خيالتهم منعهم من التقهقر والهرب ومعهم الشاه يصيح فيهم، لم يلتفتوا إليه بل هاجموا رفاقهم الخيالة بسيوفهم لفسح الطريق لهم وقاتلوهم فعلاً في بعض الأماكن. وكان ما رموه من قنابل على المدينة قد بلغ سبعين الف قذيفة من (200) مدفع عدا مرميات الحجارة والبنادق. عندئذ طلب الشاه تقديم هدية له من ثمانية خيول أصيلة نادرة من الوالي لستر خذلانه ورمزاً للصلح وليس للهزيمة الفعلية لأنه انسحب بالفعل مولياً الأدبار بعد استلامه الهدية دون أي شرط-انتهى تقرير الموصل للباب العالي.

1- الحرب النفسية الفارسية:
من البديهي ان يكون لكل حرب نفسية جانبان: سلبي (في جانب العدو) وايجابي (في جانب الشعب المعتدى عليه). وقد استفاد نادرشاه من بعض الامور لشن حربه النفسية لتمهد له اجتياح الموصل ثم اسقاط الدولة العثمانية يمكن تلخيصها بما يلي:
1-    استغل نادرشاه شهرته الحربية عندما اجتاح الهند والسند واحتل بعض المدن العراقية، ولم يخف ذلك عندما ارسل اول كتاب له إلى والي الموصل يحذره فيها وينصحه بتسليم المدينة. ثم يلجأ إلى الاقناع المعسول اذ يختتم الرسالة بالتحذير من العقاب الذي ناله أهالي الهند والسند والترك وكركوك، وينصح الوالي وأهالي الموصل ((بإستقباله هو الشاه العادل الكامل الرؤوف والخاقان الأعظم العطوف، فهو معروف بهمته العالية بالشفقة والاستعطاف ...، فلا تعرضوا انفسكم لنزول نيران عضبه وشده بطشه وسخطه ...)) (46).
2-    استند نادرشاه على دعاية سبقته عن شده بطشه وقوة جيشه وضخامته والذي اجتاح المدن الكبرى والقرى المنتشرة حوالي المناطق القريبة من كركوك إلى الموصل.
3-    حاول الشاه الحيلة بعرض الصلح دون الوعد بكف الهجوم. وكان يستعين بآيات من القرآن الكريم لفت عزيمة الوالي والمحامية واقناعهم بعدم جدوى القتال مثل: ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان))، وكما جاء في الحديث النبوي الشريف: ((ان من فرج عن أخيه المؤمن فرج الله عنه سبعين كربة يوم القيامة، ومن رأى أخاه في حفيرة فأنجاه، أنجاه الله من النار ..)).
4-    توهم نادرشاه بأن الموصل لا تختلف عن أربيل وكركوك والحلة والقرنة والبصرة من حيث ضعف ونقص استعداداتها. وكذلك تصور بعض الرحالة المؤرخين مثل (جين واتر) الذي وصف الموصل بأن أسوارها ضعيفة ومعنويات الموصليين واهنة (47). وقد تعزز وهمه عندما وجد أن كركوك قاومت ثلاثة أيام فقط ثم استجابت لشروطه، أما أربيل فقد وجدت في التسليم خيراً لأهاليها فلم تقاوم اكثر من نصف نهار ..
وكان هذا كل رصيد الفرس في حصارهم للموصل. فالمعنويات التي استند اليها نادرشاه كانت واهية وأساسها الغرور والغطرسة والثقة في عدد المقاتلين وليس في كفائتهم الحقيقية أو ايمانهم بقضية معينة راسخة.
الحرب النفسية العراقية ضد الفرس:
1-    كان نجاح قوات الموصل عام 1732م في قتل قائد الحملة مساعد نادرشاه (نركز خان) الذي أرسله بثمانية آلاف جندي اثناء حصاره لبغداد وتشتيت جنده قبل وصوله الموصل، (والرجوع برأسه إلى المدينة) تاريخا قريبا مشجعاً اذ كان النصر والاعلام والتحيات وهلاهيل النساء وقصائد الشعراء والادباء تذكر هذه المعركة وتعيش في أذهان الصغار والكبار اذ لم يمض على الحادثة اثنا عشر عاماً فقط (48).
2-    ان اجتياح نادرشاه للقرة المحيطة بالموصل وعلى طول مسيرته من كركوك إلى اربيل وحتى وصوله الموصل، واعتداءه على الأطفال وسبيه النساء وتخريبه المزارع لم يثر الرعب بقدر ما أثار الحقد والمرارة والعزم على المقاومة بالتوجه إلى مدينة الموصل كمعقل دفاع ليشاركوا أهاليها في الحرب. فكان هذا التجمع المختلط من مختلف القوميات والاديان والمستويات ابرز تجسيم لوحدة وطنية في إطار روحية الدفاع عن الوطن الأكبر وفي انصهار الحماس والمعنويات في غاية واحدة هي رد دخيل مارق وماكر وغادر لا يقيم وزناً للإنسانية ولروحية الاسلام الصحيح أو الجيرة. لذلك كان دفاع الموصل دفاعاً شعبيا بكل معنى الكلمة..
3-    إن المتابعة المستمرة من القيادة لتدابير الدفاع والهجوم والحراسة والترميم والاسعاف وتوزيع الوحدات، وشجاعتهم وامتزاجهم مع الأهالي بصفة المواطن المحارب قبل صفة الحاكم والآمر والناهي وحدت كلمة الاهالي وقلوبهم وجعلتهم أمام مسؤولية مباشرة قومية وطنية، وليس مجرد انفار محاربين في اطار تنظيم عسكري. وكان هذا هو شعور الجندي النظامي وشعور المدني من الاهالي الذين تطوعوا جميعاً وامتثلوا لتوجيهات القيادة. ويلاحظ من تتابع الاحداث وواقعها أن ولاء الوالي واسرته كان للعراق والعروبة، وقد اطلق علهيا فعلاً "الحرب المقدسة" (49).
وكانت الموصل تستعد روحيا وماديا للمعركة. وكانت الموسيقى العسكرية ودورات الباشا بين كراة الخندق وبناة السور المشتغلين باستمرار تلهي الجميع وتحبب اليهم العمل (50).
4-    وصول نجدة والى حلب – رغم قلة عددها – اضغى على حرب الموصل مصير المدن العربية وتآخيها ضد اعداء العروبة والاسلام. ويضاف إلى ذلك قدوم نجدة من (500) محارب كردي ساهم فيها (كوج باشا) حاكم كويسنجق، مما اكسب المعركة عنصراً معنوياً جديداً وهو أن الأكراد يرون في الهجوم الفارسي اعتداء على شرف الامة والوطن.
5-    كان قرار الصمود والدفاع عن البلدة مثال الديمقراطية البرلمانية والشعبية. فقد جمع الوالي الاهالي في طرف المدينة الجنوبي الشرقي في الساحة المحيطة بالجامع الأحمر (51) وقرأ عليهم رسالة نادرشاه المليئة بالغطرسة والتهديد والوعود الخادعة وسألهم رأيهم فيما جاء فيها وموقفهم منها. وقد أدركوا كذب وغرور نادرشاه، ولم ينخدعوا بما تظاهر به من ايمان وعطف فأجابوا جميعهم بصوت واحد أنهم مستعدون لما يأمرهم به وموافقون على رأيه في اقتحام غمار الحرب ولو كلفتهم إراقة دمائهم جميعاً (52). ويقول فتح الله القادري في أرجوزته هذه الأبيات:
قد جمع الناس وأفشى الخبرا

اذاع فيما بينهم ما قد جرى
وقال: ياناس الا فاجتمعوا

وحال كركوك واربل اسمعوا
فقال: نحن وبنو اعمامي

نشد حزم العزم للأقدام
لقد أتت نوبة ذي الحدباء

وانه آت بلا مراء
فنحن منكم ثم انتم منا

فلا تخافوا فشلا وجبنا
وعرضكم عرضي وانتم مني

وطفلكم طفلي خذوا ذا عني
فواطنوا القلب على الثبات

واخلصوا لله بالنيات
فقوموا ياقوم على البروج

وهموا ياناس على الخروج
فقامت الناس إلى السلاح

وصاح فينا صائح الفلاح

6-    وكان الجواب على كتاب الشاه موزونا رزينا مشحونا بالثقة والمعنويات نذكر منها المقتطفات التالية: ((... فالعياذ بالله، امن بعد إيماننا والمقاتلة دون اموالنا والمكافحة عن أولادنا وعيالنا، يهولنا منكم شقايق اللسان ويروعنا سحر البيان ووسوسة الشيطان وكثرة الهذيان ..، فما وعيدكم الا كصرير باب، وكما ظن لوح الهجير ذباب. أفرأيتم أن القصاب تهوله كثرة الغنم أو الاسد الغشمشم يدركه تراكم النعم ..))، ((.. كلا ستعلمون ثم ستعلمون اسافنا صقيلة .. وسطوتنا ثقيلة .. وحلومنا رزينة ... وقلوبنا كالحديد متينة .. وبلدتنا بحمد الله حصينة. ستر العرش مسبول علينا، وعين الله ناظرة الينا، وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. ورثنا عن آباء صدق.. ، ونورثها اذا متنا للبنين. فلا سمعا ولا طاعة، واهلا بالسعادة والشهادة هذه الساعة ..)) (53).
7-    وكانت كفاءة الوالي وحسن تدبيره وقيادته وسهره وحبه للمدينة واهاليها وتطوعه بنفسه واولاده وأقاربه موضع تقدير الجميع ورفع معنوياتهم ونسيان أي مثبطات أو امور سلبية تافهة. فشخصية القيادة والفرسان والضباط والجنود كانت من روح الجماعة ومعها.
وقد أحرز والي الموصل بذلك تقريضاً ومديحا وتاريخا لشخصيته الباسلة في كل ما كتب من تاريخ الموصل في تلك المحنة (54)، ويذكر محمد مصطفى الغلامي في (شمامة العنبر) جملة من اصلاحاته وعطفه على الفقراء والمحتاجين حين الغلاء والمجاعة وعمله الافران لإطعامهم (55).
8-    وكانت وحدة المسلمين والمسيحيين في جيش مدافع عن الموصل من ابرز احداث القرن ودليل وطنية وعروبة القتال، وساعد على استقلاليتها وشعورها بذاتها وكيانها وتمثيلها للعراق بعيدا عن الباب العالي. ويقول الرحالة (نيبور) ان المسلمين شهدوا للمسيحيين بالشجاعة والصمود والحفاظ على روح النصر.
9-    وكانت كل عملية حربية وكل استعداد يقوم به الجند والأهالي يسهم فيه كل أفراد الاسرة الحاكمة وعشيرتهم. فقد جرى حفر الخندق حول اسوار الموصل بعمل جماعي من قبل الغني والفقير والشهير والمغمور ..، وكان كل ضرر وتخريب يحدث نتيجة القصف يصلحه الاهالي ليلا او نهارا وفي الحال وفي أي مكان من أزقة وشوارع ((فتضافرت بذلك مجهودات الجميع من الجليليين الى الشحاذين)) (56).
10-    إن انكشاف المكر السياسي والمناورة الطائفية في إطماع نادرشاه التوسعية بأفعاله واقواله المناقضة لروح الدين الاسلامي الحنيف اصبح مفهوما لدى العامة. كذلك استصدر الباب العالي من علماء الدين في استانبول فتوى مفادها أن ((القتال ضد الفرس وأسرهم أمر حلال وان مطالب الفرس تناقض الدين الحنيف)) (57).
واستشهاد الموصل بالائمة وشعور الاهالي بانهم كانوا فرسان الامامين علي والحسين (عليهما السلام) اثناء الحصار دليل على عدم قناعتهم بادعاء الشاه وعلى محبتهم وشدة تعلقهم بمبادئ واخلاص وسمو سلالة الرسول العظيم. ويقول في ذلك خليل البصير (58):

هذا ولله جزيل الشكر


على النجاة واندفاع الشر
ثم من الصلاة ازكيها على


جد الذين حوصروا في كربلا

11-    إن قسوة نادرشاه على سكان القرى واعتداءه على الاديرة لم يكن مصدر ذعر للمواطنين بل حافزا لهم على المجابهة والحرب والمقاومة فلم ينس الهاربون والفارون ما فعله (نركز خان) عام 1732 في قرى متعددة، وما فعله الشاه في اربيل بعد حصارها وامتلاكها فقتل غالب اهلها وسبى نسائها وما ترك قبيحة الا وفعلها ثم رحل عنها الى الموصل (59). كذلك ما فعله جند نادرشاه في (دير ماراوراها) قرب قرية (باطنايا) اذ قتلوا القسس فيه، ومنذ ذلك الحين اصبح الدير مهجورا. لذلك فان الفارين اللاجئين من اطراف الموصل دخلوها كحصن دفاعي، ووجدوا في حسن استقبال الوالي والاهالي ورعايتهم لهم حافزا للقتال، وقد تم فعلاً تزويدهم بالسلاح والمؤن وشجعهم الوالي على القتال  والمشاركة في كل الاعمال.
12-    اخبر الوالي سكان الموصل ان رسل الشاه دليل ضعفه وخوفه وليس بسبب قوته وتمكنه من الموقف. ثم طلب اجراء خدعة حربية لاولئك الرسل وذلك بأن يجمعوا القنابر ويخفونها في ساحات بيوتهم، حتى اذا جاء رسل الشاه لا يمكنهم معرفة الاضرار الحقيقية التي سببوها لهم خاصة وان الترميمات تجري على قدم وساق من قبل فرق خاصة. وعندما سال الشاه رسله عن الاضرار التي حلت بالمدينة اجابوه (وقد انطلت عليهم الحيلة) بانها طفيفة وانهم لم يروا قنابر وقذائف وانهم رأوا معنويات الاهالي جيدة. وكانت هذه الشهادة مصدر استياء وخيبة امل الشاه (60). وكان المدخل الى فناء (كنسية الطاهرة) حتى قبيل الحرب العالمية الاولى مرصوفا بقنابر الطاغية نادرشاه من مختلف الاحجام ثم رفعت وصهرت واستخدمت موادها (61).
13-    كان الوالي حسين باشا الجليلي يكافئ القادة والضباط بالذهب والهدايا تقديرا لاعمالهم البطولية (62). أما الهجمات مالمضادة والغارات الخاصة (التي تشابه هجمات المغاوير الآن) فكان يقوم بها أولاد الوالي وضباطه المقربون. ويذكر القادري في أرجوزته أنه كان احد اعضاء تلك الفرق التي تقوم بهجمات ليلية عبر النهر لترعب الفرس. وكان عصام الدين عثمان الدفتري العمري (مؤلف الروض النضر) ايضا من اولئك الفرسان اذ يقول L(وكنت انا احد الفرسان وشاهدت من الهول ما لم يذكر بلسان )) (63). أما تقرير السفير البريطاني لدى الباب العالي الى حكومته فيذكر ان انفجار احد الألغام الاربعة التي وضعها الفرس من تحت الاسوار فكان من تدبير فرقة المغاوير التي وجهت اللغم نحو العدو وابعدته عن السور، وان ذلك اللغم قد قتل عددا غفير وأربك الجيش الفارسي وكان سببا اساسيا في تفكير نادرشاه بالانسحاب (64)، بينما تذكر المصادر الاخرى ان لغما واحدا انفجر باتجاه معاكس (بطريق الصفة او لارتباك الفرس وخوفهم اثناء وضعه). ولم يتفجر لغمان آخران مما اعتبره الاهالي معجزة ربانية وحماية لله للمدينة.
إن الروح المعنوية العالية التي ذكرناها تشبعت بروحانية دينية تولدت عن ظواهر خارقة جعلت اهالي المدينة يشعرون بأن الله معهم وانهم على حق. والوقائع التالية التي انتشرت اخبارها بين الاهالي تعتبر من عوامل رفع الروح المعنوية وتعزيز الحرب النفسية ضد هجمة (طهماسب الثالث):
أ- بعد أول معركة خاسرة بين عساكر الموصل وجند نادرشاه اراد متولي حضرة نبي الله يونس ان يرفع مافي الحضرة من الفش والبسط وكذا من الجامع فمنعه الوالي وقال دعه فعسى ان يأخذوا ما فيه فيغضب الله عليه ورسوله، وان نقص منه شيء فعليّ اتمامه (65).
ب- ومن حسن الحظ أن دجلة في تلك السنة مازا داو فاض، وبقى عسكر نادرشاه يعبر نهر دجلة من حيث شاء فاحاط جنده بالموصل ((مثل البياض بسواد الحدق))، ونهبوا من حضرة نبي الله يونس كل شيء حتى الحصر (66).
ج- وأعتقد السكان ان مدينتهم مقدسة ومحمية لكثرة مافها من مراقد الانبياء عليهم السلام والاولياء (مثل النبي يونس ونبي الله جرجيس، ونبي الله شيت، والخضر). وفي ذلك يقول القادري:

هذا وقد قلله الرحمن

في أعين الناس وذا أمان
لقد فهمنا انه المكسور

لكون حامينا هو الغيور
حضرة ذي النون رسول الله

كذاك جرجيس نبي الله
قد عود الله اهيل الموصل

من قدم وفي الزمان الأول
لو أذنبوا واخطأوا وتابوا

ثم الى مولاهم أنابوا
يكشف عنهم نازل العذاب

كرامة ليونس الأواب
د- وعزا البعض قوة المسيحيين من الاهالي المحاربين الى وجود أرواح القديسين معهم، مثل القديس (كوركيس) و (يوحنا) و (متي). ولذلك شيد الوالي كنائس جديدة وأعاد بناء وترميم كنائس أخرى (67).
هـ- ومن أسباب ارتفاع معنويات الاهالي ما ورد من ان مريم العذراء حمت المدينة، وأن شفاعتها عوضت عن قلة المؤن والعدد اضافة الى غضب القديسين الذين تهدمت هياكلهم ومعابدهم. ويروى سكان الموصل انهم شاهدوا من سطح كنيسة العذراء الطاهرة اشخاصا يحمون المدينة ويردون عنها القنابل مصوبينها جهة العدو (68).
14-    أن الحماس والاقدام بلغ ذروته بذكر آيات من القرآن الكريم والاناشيد العسكرية (المهتر خانة) والاهازيج والتي كانت سارية كل يوم. ((أهل الموصل كانوا في الليل يقرأون شيئا باللسان التركي يسمى (كلند) –وربما كلبند- كما هو عادة الينكجرية، فاذا تم صاح كل من اذا سمعها وقع في قلوبهم الرعب ويضيق بهم ذلك البر. قيل ان طهماز عنهم)) (69). ولم استطع ايجاد مدلول دقيق لهذه الكلمة او المصطلح، ولكن يستدل من معلومات الشيوخ وكبار السن بأنها تعني النشيد او الادعيات التي تمجد الجيش المدافع عن الموصل. ومهما يكن فان الاناشيد من وراء الاسواء مع دقات الطبول والدفوف واصوات الجموع كانت تقلق عساكر الفرس وتطرد عنهم النوم وتثير فيهم الجنب والتخاذل، ((واهل الموصل على الاسوار مرابطين في الليل والنهار لا يفترون عن الاستغفار)) (70).
ويقول في ذلك القادري:
هذا وكل الناس قد تشجعوا


بحرز مولاهم لقد تدرعوا
وكم لهم في البرج من صياح


الله الله ... الى الصباح
15-    إن كل تصادم ومواجهة يفشل فيها جند الفرس تعزز معنوية الاهالي بعدما تكاد كفة الميزان ان تنقلب او يتصور الفرس انهم المنتصرون. وان كثرة القتلى والمصابين من الفرس لا يمكن تصورها مقارنة بالخسائر القليلة من محاربي الموصل. وقد كانت افدح خسارة هي في انفجار اللغم المعاكس والمعركة التي دارت على الاسوار وخارجها والتي قتل فيها من الفرس حوالي خمسة آلاف و (500) جندي .. ((.. وفي تلك الليلة ضرب اللغم وهو من ناحية الشيخ قضيب البان غربي الموصلن فرد الله كيدهم في نحرهم اذ رد نار لغمهم عليهم)) (71)، ولم يقتل من جند الموصل الا نحو سبعين أو مائة ونيف (72).
وقد ذكر الرحالة (يحيى الكردي العراقي) في زيارته للموصل بعد سنة من المعركة واندحار نادرشاه: ((وبعد سنة اتيت الموصل انا ورأيت آثار القتلى في راضها كالأرجل والايدي والاطراف وغير ذلك (73).
كذلك يذكر المهندسون الذين اشرفوا على حفر أسس كلية طب الموصل الحالية انهم وجدوا مجموعة من العظام والجماجم يعتقد انها من بقايا قتلى جنود الفرس في تلك الجهة من سور الموصل قرب البرج الكبير (باشطابية) (74). ويذكر السيد القادري في ارجوزته ان رؤوس القتلى كانت كالتلول وان نادرشاه خسر ربع جيشه وجرح ربعه الثاني (75). وجاء في (النفحة المسكية في الرحلة المكية) للشيخ عبد الله السويدي: ((فدخلنا الموصل يوم الاربعاء سنة 1157هـ، واجتمعنا الوزير المكرم .. الخ، ورأيت في دار الحكم تلاً عظيما من قلل القنابر والاطواب التي رماها بها. فالحمد لله الذي رد كيده في نحره ومنح الاسلام منحه نصره)) (76).

16-    ومن الضروري ان نذكر مشاركة المرأة في المعركة بحماس عظيم رغم عدم ذكر حوادث معينة، ربما لما كان يحيط ذكر المرأة آنذاك من تحفظات تعتبر خروجا على التقاليد او الادب. لكن النساء شاركن فعلا، وأسهمت نساء الطبقة الارستقراطية في حركة البناء (من مساجد ومدارس) بعد أن استراحت الموصل وتخلصت من شدة وكرب عظيمين (77).

0 Comments:

إرسال تعليق

<< Home