Dr.dabbagh

الثلاثاء، مارس 29، 2016

ملحمة حصار الموصل وابعادها النفسية والقومية والعالمية -الجزء الثاني

الأبعاد القومية والوطنية:
إن الشعور الوطني والقومي للعراقيين في إطار الإمبراطورية العثمانية الإسلامية لم يكن غائبا أو مفقودا عن حيز الوجدان والضمير أن لم نقل في وعي المفكرين والنابهين والسياسيين الوطنيين.
ولم يكن العثمانيون يعبرون البلاد العربية اهتماما بالثقافة العربية والعروبة رغم اخلاص العرب والمسلمين لهم. أما الصراع بين الفرس والعثمانيين الذي كان باسم الدين فهو من أسرار المناورات السياسية، لكن أرض المعركة ووقودها فقد كانت على أرض العرب ومن سكانها. وبدخول العثمانيين أرض العراق منذ هام 1534م، لم تنشط العلوم والفنون ومجالات الفكر. وكانت الحركة الثقافية والأدبية محدودة وضيقة وعدد الكتائب والمدارس شحيحة (16)، ولم يبق من مدارس العصر الاتابكى والنهضة العلمية التي رافقته الا النزر اليسير، كما انخفض عدد الطلاب فيها. ولعل اهتمام العثمانيين انحصر في جمع الضرائب وكذلك في دفع غارات الاعاجم الطامعين، مثل: وقائع مراد خان الثالث (1582م)، ومراد الثالث مع الشاه مبرزا (1638م)، ثم طهماسب قولي خان (نادرشاه) عام 1730 (17)، لذلك فان قومية المعركة وروحية البناء والنهضة كانت متوقفة على مدى قوة الرباط الوجداني والوطني بين المواطنين وماضيهم العربي والاسلامي وبين القادة الاقلاء وشعورهم بالانتماء والمسؤولية نحو المنطقة العربية العزيزة أولاً قبل الولاء الثاني في الترتيب والأسبقية للباب العالي. وهكذا نجد براعة وجهود شخصيات بعض الولاة في المدن العراقية الرئيسة كبغداد والموصل والبصرة.
وكانت الانطباعات النفسية في الزائرين الأوربيين القلائل عن حال الموصل سيئة، إذ كانت مهملة وبناياتها حقيرة، وسورها ضعيف متهدم ومهمل، وشوارعها ضيقة منذ أن غزاها السلطان سليمان المخيف واستولى عليها وبقيت التجارة محصورة في المنتوجات الكردية المصدرة إلى حلب وديار بكر وقليل من الملابس والأقمشة للقبائل العربية، كما أوشكت حياكة القماش الموصلي (الموزلين) على التقلص والانقراض. ولم يكن يوجد للمسافرين غير خانين غير عامرين (18).
ولا يمكن اخفاء نظرة الترك إلى العرب بأنهم أقل درجة وأحط قدرا ومنزلة. وفي كتاب (شمامة العنبر) للأديب الشاعر مصطفى بن علي الغلامي مقاطع شعرية تعبر عن هذه النظرة وعن شعور العرب بشخصيتهم وتراثهم وحالهم المزري:
ما قولكم يا علماء أدرنة

***
في زمن لا يشبه الأزمنة

قد دثر الأرضى بازباده

***
وأغمر الجدران والماذنة

ترعد من انفاسه ركبتي

***
ويقشعر الجلد منه سنه

هذا وذكركين أو ثالث

***
يقول "بوقيش صار جد قدرينه"

... إلى أن يقول:
والترك أن تدن منهم يبعدوا

***
يصيحوا في غلمانهم "فاوسنه"



وأن أعزوك بالفاظهم

***
كانت ورب البيت مستهجنة

والطم والفعل غدا كاسدا

***
فكم غدا للدك واللعنة

يا ليتنا متنا قبيل الأذى

***
وقبل هذا الذل والمسكنة

كما يصف خشونة الموظفين الأتراك ومساوئ الإدارة العثمانية (19). هذه الخلفية الاجتماعية والفكرية والسياسية لوضع العراق والبلاد العربية تعطي لحروب العراقيين ضد الفرس (ومنها ملحمة حصار الموصل) أهمية قومية وطنية تتجلى في الأحداث والظواهر التالية:
1.  إن دفاع الموصل عن أرضها وشرفها كان صورة مكثفة لشعور كل العراقيين في بغداد والنجف والحلة وكركوك وأربيل..، ومختلف أنحاء الجناح الشرقي، ورمزا للصلابة والتماسك الوطني والقومي ضد جيش معتدي. ويتضح من عجز الباب العالي عن نجدة الموصل، وقلة النجدات الأخرى من حلب إن جميع طبقات الشعب من حرفيين وعمال وفقراء وأغنياء ونبلاء وأقليات وطوائف دينية استجابت إلى نداء واحد فقط هو الدفاع عن المدينة وعن العراق.
2.  إن والي الموصل الحاج حسين باشا الجليلي وأولاده وأسرته لم يشعروا بالخذلان أو الإحباط لعجز الباب العالي عن نجدتهم، فاستجابة الأهالي ولجوء سكان القرى المجاورة إليهم والمشاركة الديمقراطية واختفاء الحواجز والتفرقة بين الناس أثار الشجاعة والنخوة العربية والوطنية لصد الهجوم. فهو يشبه بالحقيقة الدفاع الشعبي الذي دحر نابليون أمام اسبانيا وكذلك أمام روسيا.
3.  ولقد أطلق الوالي على ذلك الموقف "الحرب الوطنية" لأن من شارك فيها كانوا عربا وأكراداً وأتراكاً: مسلمين ومسيحيين ويزيدية ويهود أيضاً، وموصليين مدنيين وفلاحين وبدو من الأطراف المحيطة بالموصل الذين هربوا من شراسة واعتداءات نادرشاه. وهكذا انتصرت العروبة والوطنية وذللت كل دسائس التفرقة والحيل العسكرية والسياسية للفرس.
4.  إن ظهور الشخصية المحلية القومية بين ظهراني شعب يحب وطنه كان أحد مظاهر انبعاث الروح القومية العربية المستقلة نسبياً عن نفوذ الوالي العثماني (20). وكان لجوء سكان القرى المجاورة من النصارى والأكراد واليزيدية عاملاً في اتحادهم وتصميمهم على القتال مع الجند، بل أنهم أقاموا احتفالاً وتعاهدوا على القتال (21).
وقد أرخ الشاعر الأديب البغدادي عبدالرحمن السويدي مجد الموصل وقوتها ووصف واليها بالعروبة، إذ قال:
    لله دركم ودر رئيسكم فلك تولى قمة العلياء
                         عربي أصل فاتك ذو نجدة ذو شيمة محمودة وسخاء (22)
5.  والحقيقة إن الموصل تميزت بحكم شبه ذاتي وشخصية محلية واضحة المعالم ثقافيا واجتماعيا وعمرانيا وسياسيا واقتصاديا (23)، فهي شخصية الإنسان العراقي التي نلمسها في بقية الولايات العراقية. ولم يكن التنافس بين ولاة الموصل وبغداد مثلاً الا تعبيرا عن الميل إلى الاحتفاظ بهذه الشخصية المستقلة بدل الانصهار في إدارة مركزية عثمانية. وكانت الموصل من أشهر وأهم باشويات العراق منذ عام 1534م، لكن تطور الأمور والأحداث جعل ولاية الموصل متميزة، وارتفع شأنها ونماؤها العمراني والثقافي والأدبي خلال القرن الثامن عشر وهي الفترة التي ساد فيها تواتر وتعدد ولاية أفراد الأسرة الجليلية، وكان أحدها خلال الحصار الكبير على الموصل من قبل شاه إيران (طهماسب الثالث) نادرشاه (أو قولي خان) (24). وكان استقلال باشوية الموصل وشهرزور قد امتد طيلة القرن السابع عشر ثم تلاه، كما إن نفوذ (ديار بكر) على الموصل قد زال منذ القرن السادس عشر (25). ولعل نجاح الحكم الجليلي في قيادة المعركة وفي كسب الدعم الشعبي لمدينة الموصل أيام ولاياتهم يرجع إلى تفهم الروح الموصلية المحلية العربية ولكون أهالي الموصل يضمرون التمرد والنفور من الحكم العثماني المطلق ويحنون إلى حريتهم القومية (26).
6.  ولم تنشأ في الموصل أية قنصليات أجنبية في القرن الثامن عشر على الأقل، بينما كانت منتشرة في بغداد والبصرة منذ فترات مبكرة (27)، ولعل في ذلك علاقة أخرى على الاستقلال النسبي عن النفوذ الأجنبي.
7.  وقد شاركت الموصل بدور سياسي لا ينكر في مواجهة الأخطار الإيرانية، فقد أسهمت في حملات ولاة بغداد مثل حملة حسن باشا وأبنه أحمد باشا كما حدث عام 1120ه/1708م عندما اشتركت قوات الموصل مع قوات بغداد بقيادة أحمد باشا لاسترجاع البصرة من أيدي قبيلة المنتفك القوية. وفي عام 1723م كانت قوات الموصل مع القوات العراقية الأخرى قد اخترقت إيران إلى ايالة أصبهان (28).
8.  وكانت القبائل العربية غير متاحة وثائرة ضد الحكم العثماني وكذلك ضد أي تسلط أجنبي. فاجتياح نادرشاه لكربلاء والحلة والبصرة وسامراء وحصاره بغداد، ثم واحتلاله كركوك وأربيل وبطشه ودماره وفنكه من عوامل بعث الروح الوطنية والجنوح إلى الاستقرار والاتحاد، بل إن ثورة القبائل العربية تحولت إلى وجهة النضال ضد الاستعمار والنضال القومي التحرري (29).
9.  ويتضح أيضاً من استعدادات الوزير والي الموصل وتوجه من حرب قادمة منذ أن حاصر نادرشاه بغداد تسعة أشهر عام 1732م ولم يستطع دخولها، ومنذ أن أرسل قائده ومساعده (نركزخان) مع قوة من ثمانية الاف جندي لفتح الموصل-باعتبارها مدينة ضعيفة..، ومن الفشل الذريع والهزيمة التي منيت بها تلك القوة على أيدي مقاتلي الموصل، والتي اعتبرها نادرشاه ضربة لسمعته وأهانه لشخصه وجيشه..، تلك الاستعدادات الدفاعية التي بدأ يفكر بها والي الموصل قبل مدة طويلة من الحملة الثانية (30)، تدل على ادراك الاطماع الفارسية ورسوخ الحقد الذي لا يرعوي أو يتعظ. وكانت تلك المبادرات بمعزل عن توجيهات الباب العالي، أي نابعة من الإحساس الوطني والشعور بالخطر الذي يهدد المنطقة. وقد تركزت تلك الاستعدادات حول:
‌أ.       حفر خندق حول أسوار المدينة اشترك فيه الكبير والصغير والغني والفقير والعزيز والمغمور (31).
‌ب.  حفر الآبار وتعمير بعض أماكن السور المتهدمة حين تحقق قدوم الباغي نادرشاه (32).
‌ج.    تكريس المحاربين وتقوية الاستحكامات الأخرى.
‌د.      توزيع الكراديس والقادة والمساعدين وأماكن العمل والواجبات...
10.  إن الشهامة والعزة والنخوة العربية التي تمثل في أسود وفرسان قادسية سعد والقعقاع كانت هي نفسها التي تعمل في وجدان الموصل العراقية-العربية. ويذكر الأب (لانزا) الدومينيكي في مذكراته عن حصار الموصل كيف أن أهاليها كانوا شديدي العزم وحلفوا على الدفاع إلى آخر رمق من حياتهم، وأقسموا على أن يقاتلوا الأحياء من نسائهم فيما لو تمكن الفرس من المدينة (33).
11.  إن تبادل الأخبار والرسائل والأشعار والقصائد بين أدباء وشعراء الموصل وبغداد ومعارضتهم لبعضهم (شعرا)، وتتبع أخبار الحصار وتسجيلها يدل على الرباط الوجداني القومي بين أجزاء العراق رغم تجزئته إلى ولايات وباشويات. فارجوزة السيد خليل البصيري المؤلفة من (69) بيتاً (34) أرسلها إلى السيد عبدالله الفخري كاتب الديوان في بغداد ويصف فيها حصار بادرشاه للموصل ودفاع الوالي والأهالي، فأجابه عبدالله الفخري بارجوزة أطول منها عدد أبياتها (215) (35)، وقد أعاد خليل البصير صياغة ارجوزته العربية فكتب قصيدة تركية في ذكر الحصار (وهي مفقودة). وارجوزة السيد عبدالله السويدي عارض بها ارجوزة السيد خليل البصير وبلغ عدد أبياتها (168) بيتاً (36). وأصبح للشعر صبغة قومية إذ تلاحم مع القضايا المستقلة عن المفاهيم العثمانية السائدة، فترعرعت حركة أحياء الأدب العربي القديم (37). وأشادت مؤلفات بغدادية بنصره جيش الموصل على جماعة (نركزخان) وقتله مثل (دوحة الوزراء) و (حديقة الزوراء) (38).
12.  إن الروح العربية بعد انتصارين ساحقين من قبل جيش الموصل على الفرس، والشعور بالعزة الوطنية والذات القومية اندفعت في مسارات حضارية وبنائية منها: تعزيز حركة التعريب، وانحسار التأثير العثماني، وارتفاع شأن اللغة العربية وآدابها المحلية باعتبارها لغة الارستقراطية المحلية (39). وعندما تصبح اللغة الأم هي لغة الأدب والصالون الحاكم فان التراث العربي يجد له متنفسا. وهكذا زادت الحاجة إلى الترجمة إلى اللغة العربية بدل استعمال الفارسية والتركية، وتم فعلاً ترجمة كتاب (تذكرة أولياء بغداد) للمؤرخ البغدادي مرتضى نظمي زاده، وصار من شروط صاحب ديوان الإنشاء إن يكون متضلعاً بعلوم اللغة العربية متمكناً من آدابها مجيداً للخط العربي. وأصبحت المراسلات الرسمية المهمة باللغة العربية (كما حدث خلال حصار الموصل) الذي كتب له الوالي أجوبته بالعربية، كما كتبت بها الوقفيات الشرعية (40).
13.  إن كل ما كتب عن ادعاء نادرشاه بالإسلام والحملات الطائفية كشف عن حقيقة أطماعه وغطرسته وظلمه ولا إنسانيته. وكانت أشعار وكتابات الأدباء والتقرير الذي
رفعه المحافظ إلى السلطان محمود الثاني العثماني تطلق على الشاه المهزوم بأنه
"بلا دين حقيقي" و "من زمرة الخنازير"، وأن محاربيه من ذوي "العتو والغرور" (
41). ووصفوه أيضاً "بالملحد" الذي لا مذهب له ولا عقيدة (42)..، مما يدل على أن الروح الدينية السليمة الواعية فتحت عيون المدافعين على حقيقة الحقد والتعصب الفارسي والادعاء الباطل بالدفاع عن الإسلام بينما تشير كل تصرفاتهم إلى مخالفة تعاليم الإسلام.
 من شدة وكرب عظيمين (77).

0 Comments:

إرسال تعليق

<< Home